وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ I قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ H: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
زَادَ التِّرْمِذِيُّ: «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ».
(585) 54- زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا».
(586) 55- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ I: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
تخريج الأحاديث:
حديث بريدة I: رواه مسلم (977)، وزيادة: «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ» رواها الترمذي (1060) وإسنادها صحيح على شرط مسلم، وجاء بمعنى هذه الزيادة عند أحمد (5/355) بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن.
حديث ابن مسعود I: رواه ابن ماجه (1571) وإسناده ضعيف، فيه أيوب بن هانئ فيه ضعف، وفيه أيضًا عنعنة ابن جريج وهو مدلس.
حديث أبي هريرة I: رواه أحمد (2/337)، والترمذي (1061) وابن ماجه (1576)، ولفظه عندهم: «لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ»، ورواه ابن حبان (3178) ولفظه عنده: «زَائِرَاتِ القُبُورِ»، واللفظ الأول أشهر، وإسناد الحديث محتمل للتحسين، ففيه عمرو بن أبي سلمة، مختلف فيه. وللحديث شواهد، فقد جاء من حديث حسان بن ثابت I، عند أحمد (3/445)، وابن ماجه (1574)، وفي إسناده عبد الرحمن بن نبهان، مجهول. ورواه أحمد (1/229)، وأبو داود (3236) وغيرهما عن ابن عباس L، وفي سنده صالح مولى أم هانئ، ضعيف، فالحديث يثبت بمجموع طرقه.
فقه الأحاديث:
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وقد نهى عنه الشرع أولًا، ثم أمر به، ففي حديث بريدة I قال النبي H: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا».
وتحصل من زيارة القبور فائدتان:
الأولى: للحي، ففيها موعظة وتذكير بالآخرة، فقد قال H: «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ».
الثانية: لأصحاب القبور بالسلام عليهم والدعاء لهم، وستأتي بعض الأدعية المأثورة عن النبي H عند زيارة القبور.
واختلفوا في حكم زيارة المرأة للقبور؛ فذهب أحمد في رواية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة: إلى تحريم ذلك، لما جاء: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H لَعَنَ زَائِرَاتِ القُبُورِ»، واللعن لا يكون إلا على المعصية، فتكون الإباحة بالزيارة خاصة بالرجال.
والمشهور عند الشافعية والحنابلة: أنه مكروه ككراهية اتباع المرأة للجنازة؛ جمعًا بين الأدلة.
والمنقول أكثر أهل العلم: أنه يشرع للنساء زيارة القبور بغير كراهة، فحديث بريدة I عام، فيشمل الرجال والنساء، ولم يقيد فيه الجواز بالرجال، والمرأة كالرجل تحتاج للتذكير بالآخرة والتزهيد في الدنيا، وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة J قالت: «يا رسول الله ماذا أقول إذا زرت القبور؟ قولي:... -وذكر دعاء-»، فلم ينكر النبي H عليها ما تريده من زيارة القبور، وزاد أن علمها ما تقول عند الزيارة، وقد روى الحاكم (1/376) بإسناد صحيح عن ابن أبي مليكة: «أَنَّ عَائِشَةَ أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْمَقَابِرِ فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟، قَالَتْ: مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ H نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؟، قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ قَدْ نَهَى، ثُمَّ أُمِرَ بِزِيَارَتِهَا»، وجاء في الصحيحين عن أنس I أن النبي H رأى امرأة عند قبر تبكي فأمرها بالصبر، ولم ينهها النبي H عن زيارة القبر، وإنما أنكر عليها عدم الصبر.
وأجابوا على حديث أبي هريرة I: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H لَعَنَ زَائِرَاتِ القُبُورِ»: بأنه يحمل على المرأة التي تخرج للزيارة متبرجة، أو التي ينشأ منها الصياح والنوح، أو إذا كانت في زيارتها تهييج لحزنها وتجديد لذكر مصابها، أو هو في حق من لم تأمن على نفسها فتنة، أو لا يؤمن الافتتان بها، أو أكثرت من الزيارة، فاللفظ المشهور في الحديث: «زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ»، وهي صيغة مبالغة، أي: مكثرات من الزيارة، وهو الأرجح، والله أعلم.
الجلوس على القبور محرم على الراجح من أقوال أهل العلم، فقد نهى الشرع عنه، ونُقل هذا التحريم عن جمهور أهل العلم، وسبقت هذه المسألة عند حديث أبي مرثد الغنوي I، في (باب شروط الصلاة).
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المشي على القبر ووطئه منهي عنه كالجلوس عليه، بل النهي عنه أولى، فالامتهان للقبر بالمشي عليه والوطء أشد، فيكون محرمًا كذلك على القول الراجح.
الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه يكره المشي بالنعال بين القبور احترامًا لأموات المسلمين، وهو المشهور عند الحنابلة ووجه للشافعية، فقد روى ابن ماجه (1568) وغيره عن بشير بن الخصاصية I: «فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي إِذْ حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ فَإِذَا رَجُلٌ يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلانِ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ وَيْحَكَ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ»، وإسناده صحيح، ويستفاد منه: النهي عن المشي بالنعال مطلقًا، فليس خاصًّا بالنعال السبتية، وليس مقيدًا بالنعال التي فيها نجاسة.
ولا يكون النهي هنا للتحريم؛ لما جاء في الصحيحين من حديث أنس I قال قال رسول الله H: «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ، وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ...»، فيستفاد منه: عدم تحريم المشي بين القبور بالنعال، وإنما هو للكراهة، ويجوز بلا كراهة عند الحاجة، كما إذا وجد في المقابر الشوك، أو شق عليه نزع خفيه.
([1]) المجموع شرح المهذب (5/310)، المغني (3/523)، المحلى [مسألة] (600)، مجموع الفتاوى (24/343)، فتح الباري (3/493)، الإنصاف (2/561).
([2]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/176)، الإنصاف (2/550).
([3]) المغني (3/514)، المجموع شرح المهذب (5/312)، المحلى [مسألة] (579)، فتح الباري (3/566).