وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ L قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ -حِينَ قُتِلَ- قَالَ النَّبِيُّ H: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا, فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ». أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ, إِلَّا النَّسَائِيَّ.
تخريج الحديث:
حديث عبد الله بن جعفر I: رواه أحمد (1/209)، وأبو داود (3032)، والترمذي (998)، وابن ماجه (1610)، والبيهقي (4/61)، وفي إسناده خالد بن سارة المخزومي، روى عنه اثنان ولم يوثق، وكان صديقًا لعبد الله بن جعفر، وقال ابن حجر فيه: «صدوق»([1]). فالحديث حسن.
وله شاهد رواه أحمد (6/370)، وابن ماجه (1611) عن أسماء بنت عميس J، وفيه أم عيسى وأم عون، مجهولتان.
فقه الحديث:
اتفق الفقهاء على استحبابه، فلما قتل جعفر بن أبي طالب I قال النبي H: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ»، وفي الصحيحين عن عائشة J: «أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ-نوع من الطعام- لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ، وَكَانَتْ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ H يَقُولُ: إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ»، ولأنه من باب المعونة لهم لاشتغالهم بمصيبتهم، ولما فيه من الجبر للقلوب.
واستثنى الفقهاء من هذا الاستحباب: إذا اجتمع أهل الميت على محرّم من ندب ونياحة؛ لما فيه من إعانة لهم على المعصية.
اتفق الفقهاء على كراهيته، وصرح جماعة من العلماء بتحريمه، وصرح جماعة منهم – أيضًا - ببدعيته، لأنه لم يكن على عهد النبي H وعلى عهد الصحابة والتابعين؛ فكان بدعة، ولأنه على خلاف السنة، وهي صنع الطعام لأهل الميت، ولأن فيه تشبه بصنع أهل الجاهلية، وفيه زيادة على مصيبتهم وإشغالا لهم، وقد روى أحمد (2/204)، وابن ماجه (2/16) عن جرير ابن عبد الله I قال: «كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ»، ورجاله ثقات([4])، وصنع الطعام والاجتماع عند الميت من النياحة، والنياحة محرمة - كما مر سابقًا -.
واستثنى العلماء من جاء معزيًا من أماكن بعيدة، لأن الحاجة دعت لإطعامه، فالشرع ينظر إلى المعاني والمقاصد، ويقارن بين المصالح والمفاسد.
لا خلاف بين الفقهاء في استحباب العزاء من الرجل أو المرأة لأقارب الميت، فقد ثبتت التعزية من رسول الله H، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد I: «أَنَّ ابْنَةً لِلنَّبِيِّ H أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ، نَحْسِبُ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى -في رواية: بقدر-»، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة J: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ H عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ،... فَقَالَ: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ»، وروى أحمد (5/35) وغيره عن قرة بن إياس I: «أَنَّ رجلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ H وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ H: أَتُحِبُّهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ H فَقَالَ: مَا فَعَلَ ابْنُ فُلَانٍ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ H لِأَبِيهِ: أَمَا تُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ؟»، وإسناده صحيح.
وليس في التعزية قول معين، وإنما يقال ما يظن أنه يسلي على أهل الميت ويصبرهم ويحملهم على الرضا بالقضاء والقدر، وينسيهم المصيبة، ويدعى للميت بما ينفعه، وأحسن ما يقال من الدعاء: ما كان مأثورًا عن النبي H، ولا بأس بما تعارف عليه الناس لتصبير أهل الميت ودعاء للميت، مثل أن يقول: «عظم الله أجركم، وغفر الله لميتكم».
واختلف العلماء في مدة التعزية؛ فقال جمهور أهل العلم: التعزية ثلاثة أيام بعد الدفن، وبعد هذه المدة لا يعزى أهل الميت، فإنما هو تجديد للمصيبة وتهييج للأحزان، وقياسًا على المحتدة غير الزوجة؛ فإنها تبقى في الإحداد ثلاثًا.
وذهب المالكية، وهو وجه للشافعية، ووجه للحنابلة: إلى أن التعزية لا حد لها، وإنما تستمِر بحسب الحاجة، واختاره شيخ الإسلام اين تيمية، فما دام الحزن باقيًا في أهله ويحتاجون للتصبير والنهي عن الجزع والتسلية؛ فإنهم يعزون ولو بعد ثلاثة أيام من دفنه، وفرق بين العزاء والإحداد، فإذا طال الزمان ونُسِيت المصيبة؛ فلا يعزى أهل الميت، لما فيه من تجديد للمصيبة والأحزان، وهذا هو الراجح.
([1]) حسنه الألباني في أحكام الجنائز (ص/168).
([2]) المغني (3/487، 496)، المجموع شرح المهذب (5/306، 320)، مجموع الفتاوى (24/381)، فتح القدير (2/142)، زاد المعاد (1/527)، الإنصاف (2/565)، الموسوعة الفقهية (16/43).
([3]) انظر المراجع السابقة.
([4]) وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص/167).
([5]) المغني (3/485)، المجموع شرح المهذب (5/306)، مواهب الجليل (2/230)، مجموع الفتاوى (24/280)، الإنصاف (2/564)، أحكام الجنائز (ص/111).