عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ L: أَنَّ النَّبِيَّ صل بَعَثَ مُعَاذًا I إِلَى الْيَمَنِ... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ, وَفِيهِ: أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ, تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ, فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
تخريج الحديث:
حديث ابن عباس: رواه البخاري (1395)، ومسلم (19).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: حكم أداء الزكاة([1]):
الزكاة فريضة من فرائض الإسلام، وركن من أركانه بإجماع المسلمين، وهي الركن الثالث، ففي الصحيحين عن ابن عمر L أن النبي H قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»، فمن أنكر وجوبها؛ فهو كافر بإجماع العلماء؛ لأنه أنكر شيئًا معلومًا من دين الإسلام بالضرورة.
واختلفوا في كفر من أقر بوجوبها، ولم يؤدها بخلًا وتهاونًا؛ فذهب الإمام أحمد في رواية، واختارها بعض أصحابه إلى كفر من ترك أدائها تهاونًا وبخلًا؛ لظاهر بعض الآيات القرآنية، كقوله D: ﴿ وَوَيۡلٞ لِّلۡمُشۡرِكِينَ ٦ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ ٧ ﴾ [فصلت: ٦، ٧]، وكقوله D: ﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ ﴾ [التوبة: ١١].
وذهب جمهور أهل العلم، والإمام أحمد في رواية، وهو المشهور عند الحنابلة: إلى عدم كفر من ترك أداء الزكاة تهاونًا وبخلًا، مع اعترافه بوجوبها؛ لما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة I قال: قال رسول الله H: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ»، والكافر لا سبيل له إلى الجنة أبدًا، وإنما مأواه النار خالدًا فيها، والآيات محتملة فيمكن تأويلها، كأن يقال: المراد بقوله ﴿ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ ﴾: كمال الأخوة الدينية، كقوله H: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»، فالمراد: نفي كمال الإيمان، فالذي لا يؤدِّي الزكاة لم تتحقق بيننا وبينه كمال الأخوة الدينية، وهذا هو الراجح، ويكون تارك الزكاة مرتكبًا لمعصية من أكبر الكبائر.
المسألة الثانية: أداء الزكاة على الفور أم التراخي([2]):
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن من وجبت عليه الزكاة؛ فإنه يجب عليه إخراجها فورًا، ولا يجوز له تأخير إخراجها، فقد أمر الشرع بأداء الزكاة، والأمر يقتضي الفورية كما هو المشهور عند أهل العلم، ويجوز له تأخيرها إذا خشي ضررًا على نفسه أو ماله، أو لم يقدر على أدائها فورًا، كما لو كان ماله غائبًا.
المسألة الثالثة: أخذ ولاة الأمور للزكاة([3]):
أجمع العلماء على أن ولاة الأمور يطالبون الناس بزكاة أموالهم الظاهرة، كزكاة الزرع والأنعام، فقد قال E: ﴿ خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ [التوبة: ١٠٣]، وفي حديث معاذ I قال له في فريضة الصدقة: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»، فالآخذ لها هم ولاة الأمور.
والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن ولاة الأمور لا يطالبون الناس بزكاة أموالهم الباطنة، كزكاة الذهب والفضة، وإنما يخرجها أصحابها بأنفسهم، فلا يعلم عن رسول الله H أنه كان يرسل السعاة لأخذ زكاة الأموال الباطنة، ولو أعطاها أصحابها لولاة الأمور فجائز.
وإذا أخذ الزكاةَ الإمامُ المسلم العادل؛ فإنها مجزئة بإجماع العلماء، للآية والحديث السابقين، ولا يجوز في هذه الحالة للمالك أن يفرق زكاة أمواله الظاهرة بنفسه عند أبي حنيفة ومالك ووجه للشافعية؛ لأمر الشرع الإمام بأخذها، ولأن أبا بكر قاتلهم عليها.
ومذهب الحنابلة، والصحيح عند الشافعية: أنه يجوز؛ لأن الغرض إيصال الحق إلى المستحقين، وأخذ الإمام لها إنما هو بحكم النيابة عن مستحقيها، وأمر الشرع الإمام بأخذها لا يدل على عدم جواز صرفها للمستحقين مباشرة، وقاتلهم أبو بكر لامتناعهم من أدائها، وهو الراجح.
وإذا أخذها الإمام المسلم الجائر أو الباغي؛ فإنها تجزئ – أيضًا - عند جمهور أهل العلم، وهو الراجح؛ لأن الأئمة هم الموكلون بأخذها، ولأنه الثابت عن جماعة من الصحابة، فقد روى أبو عبيد في كتاب ”الأموال“ (ص/679) بسند حسن عن أبي صالح السمان V قال: «سَأَلتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَابْنَ عُمَرَ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا السُّلْطَانَ يَصْنَعُ مَا تَرَوْنَ، أَفَأَدْفَعُ زَكَاتِي إِلَيْهِمْ؟، قَالَ: فَقَالُوا كُلُّهُمْ: ادْفَعْهَا إِلَيْهِمْ»، ولأن المخالفة لهم تكون من باب شق العصا والخروج عليهم، ولم يفرق الشرع بين العادل والجائر.
ويستحب عند جمهور العلماء أن يخرجها أصحابها بأنفسهم في هذه الحالة؛ للتأكد من وصولها إلى مستحقيها.
المسألة الرابعة: مكان صرف الزكاة([4]):
الراجح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن الزكاة تصرف في المكان الذي أخذت منه، فتعطى لأهل البلد الذي أخذت الزكاة منه، فقد قال النبي H: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»، والضمير في قوله «فُقَرَائِهِمْ» يعود على المخاطبين - المأخوذ منهم - فيختص بها فقراؤهم.
ولا يجوز نقلها مطلقًا، وهو الصحيح عند الشافعية والحنابلة؛ لعدم وجود دليل على استثناء حالات.
وقيل: يجوز نقلها لمصلحة راجحة، كشدة حاجة، أو قرابة، أو عالم أو طالب علم فقير، وهو المشهور عند الحنفية، ورواية لأحمد، ونص عليه ابن تيمية، واختاره علماء اللجنة الدائمة وابن عثيمين.
وقيل: لا تنقل إلا إذا كانت حاجة غيرهم أشد أو أنفع للمسلمين، كالعالم أو طالب العلم المحتاج، وهو المشهور عند المالكية.
ولو نقلت لغير مصلحة؛ فأكثر العلماء على الإجزاء؛ لأنه دفعها إلى مستحقها فبرئ منها، فلا يلزمه إعادة إخراجها، وهو الصواب.
([1]) المجموع شرح المهذب (5/326، 334)، المغني (4/7)، منحة العلام (4/389).
([2]) المجموع شرح المهذب (5/333)، الموسوعة الفقهية (23/299).
([3]) المجموع شرح المهذب (6/164)، المغني (4/92)، فتح القدير لابن الهمام (2/199)، مجموع الفتاوى (25/81)، المنتقى للباجي (2/93)، الموسوعة الفقهية الكويتية (23/304).
([4]) المجموع شرح المهذب (6/221)، المغني (4/132)، المنتقى للباجي (2/149)، مجموع الفتاوى (25/85)، فتح القدير (2/280)، الإنصاف (3/200)، قضايا الزكاة المعاصرة (1/470).