عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ L قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ H: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا, أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ, أَوْ غَارِمٍ, أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا, فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَابْنُ مَاجَهْ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ, وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.
تخريج الحديث:
حديث أبي سعيد I: رواه أحمد (3/56)، وأبو داود (1636)، وابن ماجه (1841) وغيرهم، ورجاله ثقات، لكنه أعل بالإرسال، وممن أعله بذلك: أبو زرعة وأبو حاتم والدارقطني([1])، لأن الأكثر والأحفظ من الرواة رووه مرسلًا، وهو الصواب.
فقه الحديث:
المسألة الأولى: الزكاة للفقير والمسكين([2]):
اتفق العلماء على أن من لا مال له وهو عاجز عن الكسب؛ فإنه يعطى من الزكاة ما يكفيه، وكذلك من ليس له كفاية تامة، مثل الصانع الذي لا تقوم صنعته بكفايته، والتاجر الذي لا تقوم تجارته بكفايته، والجندي الذي لا يقوم إقطاعه بكفايته... إلخ.
واتفق العلماء على أنه إذا ذكر الفقير وحده أو المسكين وحده؛ فإنه يشمل الآخر معه، ويكون الحكم جامعًا لهما، وإنما ذكر الله D في آية الصدقة الصنفين؛ لأن أحدهما أشد حاجة من الآخر.
فعند جمهور أهل العلم: الفقير أشد حاجة من المسكين، فالفقير هو من لا مال له أصلًا، قال الله D: ﴿ لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ﴾ [الحشر: ٨]، فأخبر E أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، فلم يبق معهم شيء، فصح أن الفقير لا مال له.
والمسكين هو من له مال، لكنه لا يكفيه، قال الله D: ﴿ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ ﴾ [الكهف: ٧٩]، فسماهم مساكين ولهم سفينة، وفي الصحيحين عن أبي هريرة I قال: قال رسول الله H: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ...»، فالمسكين له شيء، لكنه لا يكفيه، فيصبر وهو محتاج ولا يسأل، وهذا هو الراجح.
المسألة الثانية: الزكاة للعاملين عليها([3]):
وهم السعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة من أصحابها، ويدخل معهم الذين يُحتاج إليهم فيها، كالكاتب والحاسب والحافظ لها، والعاملون عليها أحد الأصناف المذكورين في آية الصدقة، والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن العامل على الصدقة لا يستحق جزءًا معلومًا منها، ثُمُنا أو سُبُعا أو سُدُسا، وإنما يعطى أجرة من الزكاة بقدر عمله دون تحديد.
وأيضًا الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه لا يشترط فقره، فيأخذ ولو كان غنيًّا؛ لأنه بمقابل عمله، فهي أجرة له.
المسألة الثالثة: حق الغارمين من الزكاة([4]):
من كان عليه دين وعجز عن الوفاء به؛ فإنه يستحق من الزكاة بإجماع العلماء، فسهم الغارمين مذكور في آية الصدقة، وإذا غرم في معصية وعجز عن الوفاء؛ فإنه يعطى من الزكاة إذا تاب من عمله؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، ولعموم قوله D في آية الصدقة: ﴿ وَٱلۡغَٰرِمِينَ ﴾، وهذا مذهب المالكية، والمشهور عند الشافعية والحنابلة، وهو الراجح.
وأما الغارم لحمالة تحملها لإصلاح ذات البين؛ فسيأتي الكلام عليه عند حديث قبيصة بن المخارق I.
المسألة الرابعة: الزكاة للمجاهدين في سبيل الله([5]):
لا خلاف بين العلماء في أن الغزاة المقاتلين في سبيل الله يأخذون أو يستحقون من الزكاة، فسبيل الله عند الإطلاق هو الغزو، قال الله D في آية الصدقة: ﴿ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾.
والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن الغازي يعطى من الزكاة، وإن كان غنيًّا، فقَوْلُهُ: ﴿ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ عام، يشمل كل من كان في سبيل الله من الأغنياء والفقراء، وقد ذكر الله E الفقراء والمساكين أولًا، ثم ذكر بعدهم بقية الأصناف، فلا يلزم وجود صفة الفقر في بقية الأصناف، وفي حديث أبي سعيد الخدري I قال: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اِشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ»، فالعامل يعطى؛ لأنه يأخذ مقابل عمله.
وقَوْلُهُ: «رَجُلٍ اِشْتَرَاهَا بِمَالِهِ» أي: أن الزكاة أعطيت لفقير، واشتراها منه الغني؛ فهي حلال للغني. و«غَارِمٍ» لأنه ربما كان غنيًّا في مأكله ومشربه ومسكنه وملبسه، ولا قدرة له على سداد دينه، وكذلك من تحمل حمالة، «مسكين أهداها لغني» فتحل للغني كهدية لا صدقة، وسيأتي الكلام فيما بعد عن حد الغني.
المسألة الخامسة: الزكاة على ابن سبيل([6]):
وهو المسافر المجتاز، وهذا يستحق من الزكاة بلا خلاف بين أهل العلم، فسهمه مذكور في آية الصدقة. وأما المنشئ للسفر من بلده، ولم يجتاز بعد؛ فلا يدخل في سهم «ابن سبيل» على الراجح، وهو مذهب جمهور العلماء؛ لأن السبيل هو الطريق، فابن السبيل يعني ابن طريق، والمقيم في بلده ليس في طريق، ولا يثبت له حكم السفر.
المسألة السادسة: معنى قوله في آية الصدقة: ﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾([7]):
قال جماعة من أهل العلم: هو المكاتب يكاتبه سيده على مال معين إذا وفره له أعتقه، فيعان من الزكاة على مكاتبته.
وقال بعض أهل العلم: هو المعتَق، فيعطى السيد مالًا من الزكاة ليعتق أحد عبيده.
والمشهور عند المالكية والحنابلة، والذي عليه جماعة من المحققين كابن حزم وابن تيمية: أن قوله: ﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾ يشمل الاثنين: المكاتب، والمعتَق، فهذا اللفظ يصلح لهما، وهو الراجح.
المسألة السابعة: سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة([8]):
المؤلفة قلوبهم صنفان:
الأول: الكافر إذا كان يرجى إسلامه إذا أعطي من الزكاة، ففي صحيح مسلم عن صفوان بن أمية I قال: «وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ H مَا أَعْطَانِي، وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي، حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ»، وكان صفوان I يومئذ كافرًا.
الثاني: المسلمون، وهم قوم أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة، فيعطون من الزكاة لتقوى نيتهم ويثبتوا على الإسلام، ففي صحيح مسلم عن عبد الله زيد I: «أَنّ رَسُولَ اللَّهِ H لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ»، وغنائم حنين إنما وزعت على المسلمين، وفي البخاري من حديث عمرو بن تغلب I قال: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا،... وَلَكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ».
ويدخل فيهم: القوم من المسلمين يجاورون الكفار، فيعطون من الزكاة لدفع شرهم عن المسلمين.
والصحيح من أقوال أهل العلم: أن سهم المؤلفة قلوبهم لا زال باقيًا بعد موت النبي H، لأن الله D ذكر المؤلفة في آية الصدقة، ولم يأت نسخه في الكتاب ولا السنة، فلا بأس لولي أمر المسلمين أن يعطي من يدخل في هذا السهم لمصلحة المسلمين، وهذا مذهب الظاهرية، والمشهور عند الحنابلة وغيرهم.
ومذهب الحنفية، والمشهور عند المالكية وغيرهم: أن سهمهم قد انقطع بعد موت رسول الله؛ لأن الله قد أعز الإسلام اليوم وقمع المشركين؛ فلا حاجة إلى تأليفهم؛ ولأنه لم ينقل عن الخلفاء الأربعة أنهم أعطوا المؤلفة شيئًا من الزكاة.
والأصح عند الشافعية: أن يعطى المؤلفة من المسلمين؛ لأن الغرض الذي من أجله أعطوا قد يوجد بعد النبي H، ولا يعطى الكفار؛ لأن الله قد أعز الإسلام.
([1]) علل ابن أبي حاتم (1/221)، علل الدارقطني (11/270).
([2]) المجموع شرح المهذب (6/196)، المغني (9/306)، المحلى [مسألة] (720)، بداية المجتهد (1/277)، فتح الباري (4/107)، مجموع الفتاوى (28/570)، أضواء البيان (9/221).
([3]) المجموع شرح المهذب (6/187)، المغني (9/312)، شرح السنة للبغوي (6/91)، الاستذكار (9/217)، المحلى [مسألة] (727).
([4]) المحلى [مسألة] (720)، المغني (9/323)، المجموع شرح المهذب (6/206)، مجموع الفتاوى (28/274).
([5]) المراجع السابقة، وفتح الباري (4/93)، تفسير القرطبي (8/185).
([6]) المراجع السابقة.
([7]) المحلى [مسألة] (730)، المغني (9/319)، المجموع شرح المهذب (6/200)، تفسير القرطبي (8/182)، مجموع الفتاوى (28/274)، فتح الباري (3/228).
([8]) المغني (4/124)، (9/316)، المجموع شرح المهذب (6/198)، المحلى (6/145)، مجموع الفتاوى (28/290)، تفسير القرطبي (8/178).