وَعَن عائشة قالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا, وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً, وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً, وَلَا يُبَاشِرَهَا, وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ, إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ, وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَلَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ, إِلَّا أَنَّ الرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ.
(703) 07- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ L; أَنَّ النَّبِيَّ H قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ, وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا.
تخريج الحديثين:
حديث عائشة J: رواه أبو داود (2473) وقال عَقِبَه: «غير عبد الرحمن ابن إسحاق -أحد رواة السند- لا يقول فيه: قالت: «السنة» ا.هـ وقال البيهقي: ذهب كثير من الحفاظ إلى أن هذا الكلام من قول من دون عائشة، وأن من أدرجه في الحديث وهم فيه([1]). ا.هـ وقال ابن عبد البر: لم يقل أحد في حديث عائشة هذا (السنة) إلا عبد الرحمن بن إسحاق، ولا يصح هذا الكلام كله عندهم إلا من قول الزهري([2]). ا.هـ والصواب أنه لا يثبت عن عائشة أنها
قالت: «السنة».
حديث ابن عباس L: رواه الدارقطني (2/199)، والحاكم (1/439)، والبيهقي (4/319)، وصوب وقفه على ابن عباس، وهو كما قال.
فقه الحديثين:
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن المعتكف لا يخرج لشهود الجنازة ولا لعيادة المريض، فالاعتكاف: هو الحبس والإقامة في المسجد، والخروج للجنازة ولعيادة المريض ينافي معنى الاعتكاف، وليس هذا الخروج واجبًا متعينًا عليه لا بد من خروجه لأدائه، وقد جاء في الصحيحين عن عائشة J أن النبي H: «كَانَ لَا يَدْخُلُ البَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسِانِ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا»، أي: لا يخرج من المعتكف إلا لقضاء الحاجة، فلم تذكر أنه كان يخرج للجنازة والمريض إذا كان معتكفًا، وقد جاء عنها أنها قالت: «السُّنَّةُ عَلَى المُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً»، فقولها: «السنة» أي: من هديه وطريقته H، فعليه إذا خرج المعتكف للجنازة وعيادة المريض فإنه يبطل اعتكافه.
اختلف العلماء في المسجد الذي يصلح للاعتكاف على أقوال:
القول الأول: مذهب المالكية والشافعية والظاهرية، ورواية لأحمد: يصح الاعتكاف في كل مسجد، ولا يشترط أن تقام فيه الجمعة والجماعة أو الجماعة فقط، لعموم قوله : ﴿ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِ ﴾ [البقرة: ١٨٧].
القول الثاني: قول بعض السلف ووجه للحنابلة: لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد الجامع، وهو الذي تقام فيه الجمعة والجماعة، وهو المراد بقوله : ﴿ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِ ﴾ [البقرة: ١٨٧]. وعن عائشة J قالت: «السُّنَّةُ عَلَى المُعْتَكِفِ... وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ».
القول الثالث: مذهب قلة من السلف، واختاره الألباني([5]): أن الاعتكاف لا يصح إلا في ثلاثة مساجد: الحرم، والنبوي، والأقصى؛ لما رواه ابن أبي شيبة (2/337)، وعبد الرزاق (4/347)، والبيهقي (4/316) وغيرهم، عن حذيفة I قال: قال رسول الله H: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ H »، وهذا الحديث في متنه اضطراب، ولم يعمل بظاهره الصحابة، وقد ثبت عن ابن مسعود I أنه كان يقول لحذيفة I: «لَعَلَّكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا، وَأَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا، وَعَلِمُوا وَجَهِلْت»، وعلى ثبوته؛ يحمل النفي فيه على نفي الكمال لا نفي الصحة، فلا اعتكاف تام كامل إلا في هذه المساجد الثلاثة، مع جواز الاعتكاف في غيرها.
القول الرابع: المشهور عند الحنفية والحنابلة، واختيار علماء اللجنة الدائمة([6]): أنه يشترط للاعتكاف أن يكون في مسجد جماعة تقام فيه الصلوات الخمس، لأن المسجد موضع السجود، وهذا الاسم إنما يتم ويكمل إذا كان معمورًا بالسجود وبالصلاة فيه، أما إذا كان معطلًا عن إقامة الصلاة فيه فلم تتم حقيقة المسجد له، فيفهم من قوله : ﴿ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِ ﴾: المواضع التي فيها الصلاة والسجود.
وأيضًا هذا هو المعروف عن عامة الصحابة M، إلا حذيفة I، وعن عامة التابعين كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، ولأن الصلوات الخمس واجبة في جماعة – على الأرجح - والاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجماعة يلزم منه إما ترك الجماعة الواجبة، وإما تكرار الخروج في اليوم والليلة، وهذا ينافي معنى الاعتكاف، وهو لزوم المسجد وعدم الخروج إلا لقضاء الحاجة، ولا يشترط فيه إقامة جمعة؛ لأن الخروج لها يكون نادرًا، وهو مما لا بد منه، وقد ثبت عن علي I أنه قال: «الْمُعْتَكِفُ يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ»، وهو الراجح، والله أعلم.
الصحيح من أقوال أهل العلم: أن الصوم ليس شرطًا في صحة الاعتكاف، فيصح الاعتكاف من غير الصائم، قال : ﴿ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ ﴾ [البقرة: ١٢٥]، وقال أيضا: ﴿ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِ ﴾ [البقرة: ١٨٧]، ولم يخص بهذا صائمًا من غيره، وفي الصحيحين أن عمر I نذر أن يعتكف ليلة فقال له النبي H: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ»، والليل لا صيام فيه.
وأما ما جاء عند البيهقي (4/316) أن النبي H قال له: «اعْتَكِفْ وَصُمْ» فإسناده ضعيف. وجاء عن ابن عباس L أن النبي H قال: «لَيْسَ عَلَى المُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ»، ومعناه: أنه لا يجب الصوم على المعتكف، إلا إذا أحب أن يعتكف وهو صائم، والصحيح أن هذا من قول ابن عباس L.
وأما ما جاء عن عائشة أنها قالت: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ... وَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصَوْمٍ ». فلا يثبت عنها أنها قالت: (السنة) كما سبق في التخريج.
وهو مذهب الشافعية والظاهرية والمشهور عند الحنابلة، وهو - أيضًا - المذهب عند الحنفية، إلا أنهم اشترطوا الصوم إذا نذر الاعتكاف.
والقول الثاني: أنه يشترط في صحة الاعتكاف الصوم؛ لما جاء عن عائشة أنها قالت: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ... وَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصَوْمٍ ». وأيضًا قد ذكر الله تعالى آية الاعتكاف عند ذكره لآية الصيام، وهذا إشارة إلى أن الاعتكاف ملازم للصوم، وهو المشهور عند المالكية، وقول للحنفية، ورواية لأحمد.
الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه لا حد لأقل الاعتكاف، فيكفي فيه ما يسمى عكوفًا وإقامة، ولو ساعة من يوم إذا نوى بها المسلم الاعتكاف، لعدم وجود دليل على اشتراط مدة معينة، والأفضل ألا يقل الاعتكاف عن يوم كامل، فلم يؤثر عن النبي H وأصحابه M أنهم اعتكفوا أقل من يوم، وهذا مذهب الظاهرية، وهو المشهور عند الشافعية والحنابلة، وقول للحنفية.
والقول الثاني: أن أقل مدة للاعتكاف يوم كامل، فلا يصح أقل من يوم؛ لأنه يشترط للاعتكاف الصوم، والصوم لا يكون أقل من يوم، وهو مذهب المالكية، وقول للحنفية، ووجه للشافعية، ورواية لأحمد.
([1]) سننه (4/321).
([2]) التمهيد (8/330).
([3]) بداية المجتهد (1/313)، المجموع شرح المهذب (6/509)، معالم السنن (2/120)، المغني (4/469).
([4]) المنتقى للباجي (2/79)، المغني (4/461)، المجموع شرح المهذب (6/483، 513)، كتاب الصيام من شرح العمدة (2/723)، الإنصاف (3/364)، فتح الباري (4/806)، المحلى مسألة (633).
([5]) رسالة قيام رمضان (36).
([6]) فتاواها (10/410).
([7]) المغني (4/459)، المحلى مسألة (625)، المجموع شرح المهذب (6/587)، كتاب الصيام من شرح العمدة (2/751)، الإنصاف (3/358).