2024/12/23
عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي, فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى, تَجِدُ شَاةً?»

- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ L قَالَ: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ H وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي, فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى, تَجِدُ شَاةً?» قُلْتُ: لَا. قَالَ: «فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ, لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

تخريج الحديث:

حديث كعب بن عجرة I: رواه البخاري (1814)، ومسلم (1021).

فقه الحديث:

المسألة الأولى: الفدية على المحرم إذا حلق شعر رأسه([1]):

حالات حلق الرأس:

الحالة الأولى: حلقه لعذر.

وهذا تجب فيه الفدية بإجماع العلماء، قال الله E: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖ [البقرة: ١٩٦]، ولحديث كعب بن عجرة I.

الحالة الثانية: حلقه عمدًا لغير عذر.

وهذا تجب فيه الفدية كذلك عند عامة أهل العلم، لأن الفدية إذا وجبت على المعذور؛ فغيره أولى، كجزاء الصيد يجب على من قتله لغير عذر، وقياسًا على كفارة اليمين، فمن حلف على شيء، ثم خالفه عمدًا لغير عذر؛ فعليه الكفارة بالإجماع.

الحالة الثالثة: حلقه نسيانًا أو جهلًا.

اختلف العلماء في الفدية عليه في هذه الحالة؛ فقال جمهور أهل العلم: تلزمه الفدية، فالنسيان والجهل عذران، فلا تسقط بهما الفدية وإن رفع الإثم، كوجوبها على من حلق رأسه لعذر الأذى الذي أصابه؛ ولأنه لا يمكن تداركه بعد حلقه.

وقال بعض السلف والظاهرية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة: لا فدية عليه، لعموم قوله : ﴿ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡ [الأحزاب: ٥]، وقوله : ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا [البقرة: ٢٨٦]، فيرفع عنه الإثم وما ترتب على هذا العمل، وقياسًا على جزاء الصيد فقد
أوجبه الله E على من فعله عمدًا، فقال: ﴿ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعمدًا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ [المائدة: ٩٥]، وهو الأقرب، ورجحه الشيخ ابن باز([2]).

المسألة الثانية: صفة الفدية([3]):

أجمع العلماء على أن فدية الحلق هي الصيام أو الصدقة أو النسك، لقوله تعالى: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖ [البقرة: ١٩٦]، ولحديث كعب بن عجرة I.

والنسك أقله ذبح شاة، والصيام قدره ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين، ويعطى كل مسكين نصف صاع من أي طعام، من تمر أو بر أو شعير عند جمهور أهل العلم، ففي حديث كعب بن عجرة I قال له النبي H: «أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ»، ونصف صاع يساوي تقريبًا كيلو ونصف.

وهذه الفدية على التخيير عند جمهور أهل العلم، وهو الراجح، فمن وجبت عليه الفدية؛ فله أن يذبح أو يصوم أو يطعم مساكين، فحرف «أو» يفيد التخيير، وجاء في حديث كعب بن عجرة I أن النبي H قال له: «تَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ»، فظاهره وجوب الذبح، وإنما التخيير بين الصيام والإطعام لمن لم يستطع على الذبح، لكن قد جاء في الصحيحين عن كعب ن عجرة I، من طريق أخرى أن النبي H خيره بين هذه الثلاثة، فقال له: «فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً»، وهذه الرواية توافق ظاهر الآية، فيحمل الأمر بالشاة في بعض الروايات على الاستحباب والأفضلية.

المسألة الثالثة: متى تجب الفدية([4]):

الصحيح عند الشافعية والحنابلة: أن الفدية تجب لحلق ثلاث شعرات فصاعدًا، فأقل الجمع ثلاثة، وهو الأرجح.

والمشهور عند الحنفية: أن الفدية تجب لحلق ربع الرأس فصاعدًا، لأن الربع يقوم مقام الكل، لهذا يقال: رأيت فلانًا، إذا رأى أحدى جهاته.

وقال المالكية: إن كان الحلق بالقدر الذي يماط به الأذى ففيه الفدية،
لأن الله  قيد الفدية بالحلق بسبب الأذى، فلا تكون الفدية إلا بإماطة قدر الأذى، ولا تجب الفدية بحلق أقل من هذا القدر، وقد ثبت في الصحيحين: «أَنَّ النَّبِيَّ H احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ»، ولابد من أخذ شعر من موضع الحجامة، وهذا الشعر الذي يحلق في موضع الحجامة قليل لا يزال به الأذى، لهذا لم ينقل عن النبي H أنه افتدى، واختاره الشيخ ابن عثيمين.

وأما تحريم الحلق؛ فيحصل ولو بأقل من هذا القدر؛ لعموم الأدلة.

المسألة الرابعة: موضع الفدية([5]):

عامة أهل العلم على أن من وجبت عليه الفدية، فاختار الصيام؛ فله الصوم حيث شاء؛ لأنه لا منفعة فيه للغير.

واختلفوا في الذبح والإطعام؛ فذهب الشافعية والحنفية في المشهور عندهم، والحنابلة في رواية: إلى أنهما -الذبح والإطعام- لا يكونان إلا في مكة، لأن نفعهما يحصل للغير، فأهل مكة أحق به، كجزاء الصيد، قال الله : ﴿ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ [المائدة: ٩٥]، وكالدم على المتمتع في الحج، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ [الحج: ٣٣].

والمشهور عند الحنابلة: أن الذبح والإطعام يكونان في الموضع الذي حلق فيه حيث وجد السبب، فقد أمر النبي H كعب بن عجرة I بالفدية وهو بالحديبية، ولم يأمر ببعثه إلى الحرم.

وذهب أكثر التابعين، ومذهب المالكية والظاهرية: إلى أن الذبح والإطعام يكونان في أي مكان، ولو في بلده، كالصيام، فقد أمر النبي H كعب بن عجرة I بالفدية، ولم يحدد له مكانًا معينًا لأدائها، ولا يوجد دليل منصوص ولا إجماع على اشتراط الأداء في مكة أو حيث وجد سببه، ونسك الحلق لا يسمى هديًا، وهو الأقرب، والأحوط أن يكون في مكة.

المسألة الخامسة: الفدية على من ارتكب محظورًا غير حلق الرأس([6]):

كلبس المخيط، أو التطيب، أو تغطية الرأس، أو لبس الخفين، أو تقليم الأظفار، وقد ذهبت الظاهرية إلى أن الفدية لا تجب إلا في حلق الرأس، فلا دليل على وجوبها في بقية المحظورات.

وقال جمهور العلماء: تجب الفدية فيها أيضًا، قياسًا على حلق الرأس، فكلها محظورات وجب على المحرم اجتنابها، فمن ارتكب شيئًا منها؛ فعليه الفدية، ولقوله E: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖ [البقرة: ١٩٦]، ولفظ ﴿ مَّرِيضًا مطلق؛ فيحمل على المرض في الرأس أو في غيره، وهو الأرجح، وهو فتوى اللجنة الدائمة([7]).

والأرجح: أن من ارتكب محظورًا منها جاهلًا أو ناسيًا، أنه لا فدية عليه؛ للأدلة المذكورة في حلق الرأس جهلًا أو نسيانًا، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة، واستثنوا تقليم الأظفار؛ لأنه لا يمكن رده كحلق الرأس، أما بقية المحظورات؛ فيمكن تداركها بعد فعلها بنزع أو غسل أو نحوهما.

 

([1]) المحلى مسألة (874)، المغني (5/381)، الحاوي الكبير (4/104)، المجموع شرح المهذب (7/376)، فتح الباري (4/487)، الإنصاف (3/527).

([2]) فتاواه (17/110).

([3]) المحلى مسألة (874)، شرح مسلم (8/98)، فتح الباري (4/482)، أضواء البيان (5/397).

([4]) المغني (5/382، 387)، المجموع شرح المهذب (7/366)، بداية المجتهد (1/367)، فتح القدير (3/31)، أضواء البيان (5/397)، الشرح الممتع (7/136).

([5]) المحلى مسألة (874)، المغني (5/450)، تفسير القرطبي (2/385)، بداية المجتهد (1/367)، فتح الباري (4/487)، الإنصاف (3/542)، حاشية الدسوقي (2/302).

([6]) تفسير القرطبي (2/385)، أضواء البيان (5/437)، المغني (5/389، 391)، المحلى مسألة (857)، المجموع شرح المهذب (7/374)، روضة الطالبين (2/408، 413).

([7]) فتاواها (1/182).

هذه الصفحة طبعت من - https://sheikh-tawfik.net/art.php?id=839