وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ L قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ H مَكَّةَ, قَامَ رَسُولُ اللَّهِ H فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ, ثُمَّ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ, وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ, وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي, وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ, وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي, فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا, وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا, وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ, وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ». فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ, يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا, فَقَالَ: «إِلَّا الْإِذْخِرَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
تخريج الحديث:
حديث أبي هريرة I: رواه البخاري (2434)، ومسلم (1355).
فقه الحديث:
أجمع العلماء على تحريم صيد الحرم المكي على المحل والمحرم.
وأجمعوا كذلك على تحريم قطع شجره وإباحة أخذ الإذخر.
ويحرم قطع شجره ذات الشوك، وإن كان مؤذيًا عند جمهور أهل العلم، وهو الراجح.
ودليل كل ما سبق: ما ثبت عن النبي H أنه قال في مكة: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا»، أي: لا يطرد من مكانه. «وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا» أي: لا يقطع شجرها الشائك؛ زيادة تأكيد على حرمة مكة. وفي رواية في الصحيحين: «وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا»، وهذا أعم، أي: لا يقطع شجرها. وفي الصحيحين - أيضًا - أن النبي H قال: «وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ –أي: لا يؤخذ ويقطع الرطب من الكلأ أو الحشيش-، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، قَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ»، والإذخر: نبات ذو رائحة طيبة، يستخدم في سقوف البيوت، يوضع فوق الخشب لسد الخلل، وفي القبور لسد خلل اللبن. فاستثنى النبي H الإذخر من الأخذ والقطع المحظور للحاجة له.
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن ما غرسه الآدمي من شجر أنه يجوز قطعه، لأن الممنوع من قطعه: ما كان من شجر الحرم، وأما ما غرسه الآدمي؛ فهو ملكه، ولا يضاف إلى الحرم المكي، وإنما يضاف إلى مالكه، فلا يحرم قطعه.
وأما ما أنبته الآدمي من المأكول والمشموم، كالبقول والزروع والرياحين؛ فيجوز له أخذه بإجماع العلماء.
لا يحل تملُّك لقطة مكة بحال من الأحوال، وإنما من التقطها يعرفها إلى الأبد، فمن التقطها عرفها دائمًا، وهذا خاص بمكة، فقد قال H: «وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ»، أي: لا تحل لقطتها إلا لمعرف، فعن ابن عباس L أن النبي H قال: «وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا»، وخصت مكة بذلك؛ لأن الناس يعودون إليها مرة بعد أخرى، فربما يعود المالك لطلبها، وربما بعث من يطلبها له، وأيضًا زيادة تأكيد على أمان وحرمة مكة.
وسيأتي الكلام على هذه المسألة بتوسع، مع ذكر الخلاف فيها في (باب اللقطة).
([1]) المجموع شرح المهذب (7/185)، المحلى مسألة (897)، المغني (5/179، 185)، فتح الباري (4/517)، أضواء البيان (2/155).
([2]) انظر المراجع السابقة.