قوله H: «ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا, فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» فَرَقِيَ الصَّفَا, حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ, فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ, وَلَهُ الْحَمْدُ, وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ, وَنَصَرَ عَبْدَهُ, وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ». ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ, حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى إِذَا صَعَدَتَا مَشَى إِلَى الْمَرْوَةِ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ, كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا … فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فقه الفقرة الثانية من الحديث:
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج أو العمرة إلا به، ودليله الآتي:
أجمع العلماء على أن السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، يبتدئ الشوط من الصفا - وهو جبل صغير خلف الكعبة - وينتهي في المروة - وهي هضبة صغيرة -، ولو ابتدأ السعي من المروة؛ فلا يصح هذا الشوط عند جمهور أهل العلم، وهو الراجح، ففي حديث جابر I: «فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: ﴿ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ﴾، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»، فبدأ بالصفا.
وقد جاء في رواية عند النسائي والبيهقي بلفظ الأمر: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»، وهي رواية شاذة – سبق تخريجه - في باب الوضوء.
ويستحب للساعي أن يأتي الصفا فيرقى عليه حتى يرى الكعبة، ثم يستقبلها ويهلل ويكبر فيقول: «الله أكبر» ثلاثًا، ثم يقول: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، يفعل ذلك ثلاث مرات، ويدعو في كل مرة، كما جاء عن النبي H في حديث جابر I: «فَرَقِيَ الصَّفَا، حَتَّى رَأَى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ...»، وليس في ذلك عند أحد من أهل العلم حد، وإنما الاجتهاد في ذلك بقدر ما يقدر عليه المرء.
ثم ينزل من الصفا ويمشي مشيه المعتاد، حتى يصل إلى بطن الوادي عند العلَم فيسعى، ومعناه: الاشتداد في المشي والهرولة حتى يخرج من الوادي عند العلَم، ثم يمشي مشيه المعتاد حتى يصعد المروة، وهكذا في السبعة الأشواط، فهذا الذي جاء من فعل النبي H: «ثُمَّ نَزَلَ إِلَى المَرْوَةِ، حَتَّى اِنْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الوَادِي سَعَى حَتَّى إِذَا صَعَدَتَا مَشَى إِلَى المَرْوَةِ».
وفي الصحيحين عن ابن عمر L: «كَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا والمروة»، وهذا السعي في بطن الوادي سنة، وليس بواجب عند جمهور العلماء، وهو الراجح، فهو مجرد فعل من رسول الله H، وقد روى الإمام أحمد (2/151) وغيره عن ابن عمر L قال: «إِنْ مَشَيْتُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ H يَمْشِي، وَإِنْ سَعَيْتُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى»، وإسناده صحيح.
ويستحب له إذا وصل إلى المروة أن يفعل كما فعل في الصفا، فيصعد ويستقبل القبلة ويكبر ويهلل ويدعو، لحديث جابر I: «فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا»، وهو أمر متفق عليه بين العلماء.
عامة العلماء - إلا من شذ - أن الطائف يقطع طوافه والساعي يقطع سعيه إذا أقيمت الصلاة المكتوبة، فهو في عذر شرعي، ولأن الطواف صلاة، وفي الصحيحين: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ» والسعي من باب أولى. ولا يوجد دليل يمنع من ذلك، فإذا انقضت الصلاة أكمل طوافه أو سعيه، ولا يستأنف ذلك من جديد.
وكذلك في صلاة الجنازة يجوز قطع الطواف أو السعي لأجلها؛ لأن وقتها يسير، وعليه جمهور العلماء.
وإذا كان قطع الشوط من أثنائه؛ قال بعضهم: يلزمه أن يبدأ الشوط من أوله.
وقال بعضهم: يبتدئ من الموضع الذي قطع الشوط عنده، قال الشيخ ابن باز: لا يلزمه، وإن بدأ من أول الشوط فهو أفضل؛ لما فيه من الاحتياط وخروجًا من الخلاف([4])، والأمر كما قال V.
([1]) المجموع شرح المهذب (8/77)، المغني (5/239)، الاستذكار (12/202)، فتح الباري (4/306)، الشرح الممتع (7/413).
([2]) شرح مسلم (8/145)، المغني (5/236)، الاستذكار (12/215).
([3]) المحلى مسألة (872)، المجموع شرح المهذب (8/60)، المغني (5/247)، فتح الباري (4/288)، مواهب الجليل (4/105، 107)، حاشية الدسوقي (2/246).
([4]) فتاواه (16/136)، (17/216).