عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ, وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ, فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ, وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ, إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ».
(858) 02- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى L قَالَا: كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ, فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالزَّيْتِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. قِيلَ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ? قَالَا: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
تخريج الحديثين:
حديث ابن عباس L: رواه البخاري (2240)، ومسلم (1604)، وفي رواية للبخاري: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».
حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى L: رواه
البخاري (2244، 2254).
فقه الحديثين:
أجمع العلماء على صحة السلم في الموزونات والمكيلات، فقد قال H: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ –أي: قدم مالا قيمةً لتمر- فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، وفي رواية: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، وهذه الرواية تشمل كل موزون ومكيل.
والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أن السلم يكون – أيضًا - في غير الموزون والمكيل، فيما ينضبط بالوصف، فيكون في المذروع كالثياب والفرش، ويكون في المعدود من الفواكه والخضروات المتقاربة في الحجم.
والصحيح أن السلم يكون – أيضًا - في الفواكه والخضروات المتفاوتة في الحجم، كأنواع البرتقال والموز والبطيخ، ولا يكون السلم فيها بالعدد، وإنما بالوزن، لأنها تنضبط بالوزن، فيقول مثلًا: «هذه خمسون ألف ريال مقابل مائة كيلو من البرتقال إلى أجل معين يسميه»، وهذا مذهب المالكية والشافعية، ورواية لأحمد.
والصحيح: أن السلم يصح في المعدود من الحيوان، ويضبط الوصف بذكر الآتي: الجنس، والنوع، والقدر طولا أو قصرًا على التقريب، وقد سبق أن النبي H أمر عبد الله بن عمرو L أن يأخذ إبلًا للجيش إلى إبل الصدقة، أي: إلى آجل، والقرض في الحيوان جائز؛ فكذلك في السلم، وهذا مذهب المالكية والشافعية، والصحيح عند الحنابلة.
والخلاصة: أنه يجوز السلم فيما ينضبط بالوصف في غير المكيل والموزون، فلا دليل على منعه، فمتى أمكن تصحيح العقود لعدم مخالفتها الشرع صححناها، والأصل في عقود المعاملات الحل.
وأما ما لا ينضبط بالوصف؛ فلا يجوز السلم فيه عند جمهور العلماء، كالجواهر، فالاختلاف في أنواعها يعتبر اختلافًا مؤثرًا، فمنها ما يساوي آلاف، ومنها ما يساوي المئات، ومنها الصغير والكبير والحسن والرديء، فلا يمكن أن تباع إلا بالمعاينة، ومع ذلك إذا أمكن ضبط الجواهر ضبطًا جيدًا، لا سيما مع تطور الصناعة اليوم، فلا مانع من السَّلم فيها، والله أعلم([2]).
لا خلاف بين العلماء أنه يشترط معرفة المسلَم فيه، فإن أسلم في مكيل فيكون كيله معلومًا، وإن أسلم في موزون فيكون وزنه معلومًا، وإن أسلف في معدود فيكون العدد معلومًا، ففي الحديث: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ».
ولا خلاف بين العلماء في اشتراط تعيين وقت التسليم للمسلَم فيه، فلابد أن يكون الأجل معلومًا، فيتفقان على زمن معين لقبض المسلَم فيه، وفي الحديث قال: «إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».
وإن اتفقا على التسليم في وقت يعرف بالعادة كالموسم أو الفصل؛ ففيه خلاف، وسيأتي الكلام عنه قريبًا.
وإن تعذر تسليم المسلَم فيه إذا حل أجل التسليم، إما لعجز البائع عن التسليم أو لغيبة المسلَم فيه، أو لم تحمل الثمار تلك السنة؛ فالمشتري بالخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد المسلَم فيه فيطالب به، وبين أن يفسخ العقد ويرجع بالثمن، لأن العقد قد صح، وإنما تعذر التسليم.
وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الراجح، خلافًا لمن قال: ينفسخ العقد مباشرة.
لا يجوز السلم في صنف ربوي بربوي، كالحنطة بالحنطة، وكالحنطة بالشعير، لأنها أصناف ربوية لا تباع إلا يدًا بيد، وشرط السلم وجود أحدهما وتأجيل الآخر.
وإنما يجوز السلم فيما لا يشترط فيه التقابض، فيجوز في ربوي بغير ربوي، أو في ربوي بربوي مع اختلاف علة الربا، أو في غير الأصناف الربوية، فيكون السلم – مثلًا - في الحنطة بذهب أو فضة أو نقود، وهذا الشرط مجمع عليه.
هذا الشرط باطل عند جمهور العلماء؛ لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه أو عدم إنتاجه، فهو غرر، وإنما يكون السلم بكيل أو وزن مسمى دون تعيين، كما يفهم من أحاديث السلم، وهو الراجح.
الصحيح الذي عليه أكثر العلماء: أنه لا يشترط ذكر مكان الإيفاء والقبض عند إبرام عقد السلم، فليس في أحاديث السلم اشتراطه، فإن لم يحددا مكان التسليم وحصل الاختلاف بعد ذلك؛ يكون مكان العقد هو مكان الإيفاء والقبض، والأفضل ذكر مكان التسليم حسمًا لباب النزاع كما ذكره بعض أهل العلم.
الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه لا يشترط أن يكون المسلَم فيه موجودًا حال العقد، فيصح السلم فيما لم يوجد بعد، وإنما يشترط القدرة على التسليم في الوقت المتفق عليه بين الطرفين، فأدلة السلم ليس فيها اشتراط وجود المسلم فيه حال العقد، وقد كان الصحابة يسلفون الأنباط في زرع -وهم العرب خالطوا الأعاجم فاستعجمت ألسنتهم-، ولم يكن الصحابة يسألونهم: هل لهم زرع أم لا؟ كما في حديث الباب.
مثلًا: أسلم رجل في بر، وفي وقت الاستلام اعتاض عنه –أي: أخذ بدلًا عنه- شعيرًا.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة:
القول الأول: لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره، لأنه يكون من بيع الطعام قبل قبضه، حيث يأخذ بدلًا عن البر شعيًرا قبل أن يقبض البر، وإن كان في ملكه؛ لأنه دفع ثمنه لكنه لم يقبضه بعد، وهذا مذهب جمهور العلماء.
القول الثاني: يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره بقيمته، فمثلًا: يعتاض عن المسلَم فيه - وهو البر - بقدره من الشعير وقت الاعتياض أو السداد دون زيادة، حتى لا يربح ما لم يضمن.
وليس هو من بيع الطعام قبل قبضه، إنما هو من الاعتياض عما في الذمة، فهو من جنس الاستيفاء، فائدته: سقوط ما في الذمة، وهذا كمن باع بدنانير إلى أجل، ثم اعتاض عنها وقت السداد بدراهم، وهذا جائز عند جمهور أهل العلم كما سبق، فالاعتياض عن دين السلم بغيره يكون مثله.
وهذا مذهب الإمام مالك، ورواية لأحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين، وهو الأرحج.
([1]) المغني (6/386-400)، شرح مسلم (11/32)، بداية المجتهد (2/202)، المجموع شرح المهذب (12/194-201)، فتح الباري (5/183)، الإنصاف (5/85).
([2]) انظر المعاملات المالية أصالة ومعاصرة (8/154).
([3]) المغني (6/403، 408، 410)، شرح مسلم (11/35)، فتح الباري (5/183)، بداية المجتهد (2/205)، الإنصاف (5/103).
([4]) بداية المجتهد (2/202)، المغني (6/412)، الفقه الإسلامي وأدلته (5/3609)، فتاوى اللجنة الدائمة (14/102).
([5]) المغني (6/604)، فتح الباري (5/187).
([6]) بداية المجتهد (2/204)، المغني (6/414)، الإنصاف (5/107)، الفقه الإسلامي وأدلته (5/3616).
([7]) بداية المجتهد (2/204)، المغني (6/604)، الشرح الممتع (4/55).
([8]) المغني (6/415)، مجموع الفتاوى (29/506، 517)، الأخبار العلمية (ص/143)، تهذيب السنن مع عون المعبود (9/255)، إعلام الموقعين (1/389)، الإنصاف (5/108)، الشرح الممتع (4/57).