وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ حَقًّا كِتَابُ اللَّهِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
تخريج الحديث:
حديث ابن عباس L: رواه البخاري (5737).
فقه الحديث:
اختلف الفقهاء في حكمه على أقوال:
القول الأول: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأن تعليمه قربة وعبادة، فلا يؤخذ عليه أجر إلا من الله D وحده، كالصلاة والصيام، وقد قال تعالى لنبيه: ﴿ قُل لَّآ أَسَۡٔأَلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا ﴾ [الأنعام: ٩٠]، وروى الإمام أبو داود (3412) وابن ماجه (2157) عن عبادة بن الصامت I قال: «عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا،... فَسَأَلْتُ
رَسُولَ اللهِ H: رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا»، وفي سنده ضعف، وله شواهد ضعيفة تدل بمجموعها على أن له أصلًا، وقد صححه الألباني بمجموع طرقه([2]).
وردوا على حديث ابن عباس L بالآتي:
وهذا مذهب متقدمي فقهاء الحنفية، والمذهب عند الحنابلة.
القول الثاني: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مطلقًا؛ لما ثبت عن النبي H أنه قال: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ»، وإن كان هذا في الرقى فلفظه عام، فيشمل الرقى والتعليم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأيضًا قد زوّج النبي H رجلًا بامرأة وقال له: «قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»، كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد I، وجاء في رواية عند مسلم: «فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ»، فجعل تعليمها القرآن مهرًا لها، ولا دليل على نسخه.
ومع أن تعليم القرآن قربة وعبادة؛ فإنه يجوز أخذ الأجرة عليه، لأن الشرع نص على ذلك، فهو يتعب في تعليمه، وأخذه أجرة على تعليمه لا ينافي حصول الثواب والأجر من الله D إذا أخلصت النية.
وردوا على حديث عبادة I وغيره بالآتي:
وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
القول الثالث: تجوز الأجرة للمعلم المحتاج، ولا تجوز للمستكفي، فقد يجوز مع الحاجة ما لا يجوز مع عدمها، كجواز أكل الفقير المتولي على مال اليتيم من ماله بالمعروف، قال تعالى: ﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ ﴾ [النساء: ٦]، وهذا لأجل الجمع بين الأدلة.
وهذا رواية لأحمد، واختاره ابن تيمية، وهو وجه للشافعية.
وهذا الخلاف حاصل – أيضًا - في أخذ الأجرة على تعليم بقية العلوم الشرعية، كالفقه والحديث، وأيضًا في الإمامة والأذان -وقد سبق -، إلا أن بعض فقهاء الحنابلة منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن وأجازها هنا.
والأرجح من هذه الأقوال: مذهب جمهور العلماء في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وسائر العلوم الشرعية، ورجحته اللجنة الدائمة([3]) وابن عثيمين([4]).
والأحوط: ألا يأخذ الأجرة عليه إلا مع الحاجة، ليستعين بها على الاشتغال بتعليم العلم.
واتفق العلماء على أن تعليم العلم الشرعي بغير أجرة من العمل الصالح، ولم يكن النبي H ولا الصحابة ولا التابعون ولا غيرهم من العلماء المشهورين يأخذون الأجرة على ذلك.
اتفق الفقهاء على جواز أخذ الرزق أو الراتب من بيت المال على تعليم القرآن والعلوم الشرعية، وليس هذا من أخذ الأجرة عليه، إنما هو استحقاق له من بيت المال؛ لأنه عمل عملًا فيه مصلحة للمسلمين، وبيت المال أنشئ من أجل مصالح المسلمين، فهذا رزق يعينه على الطاعة.
ذهب بعض متأخري الفقهاء إلى جواز أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، كالاستئجار على القراءة وإهداء الثواب إلى الميت، لعموم قول النبي H: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ»، ولم ينه عنه الشرع.
القول الثاني: أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تلاوة القرآن.
ودليلهم الآتي:
وعن عبد الله بن شبل I قال: قال رسول الله H: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ...»، رواه أحمد (3/428) وغيره،
وسنده حسن.
وقد قال بهذا القول كثير من الفقهاء المتأخرين، واختاره ابن تيمية وابن القيم وعلماء اللجنة الدائمة([7]) وابن عثيمين، وهو الراجح، ويكون فعله بدعة كما نص عليه جماعة من العلماء.
ومن وقف أو نذر على قراءة قرآن؛ فإنه يصرف لمدارس تحفيظ القرآن، أو لمن يعلم القرآن أو يتعلمه، أو معونة لأهل القرآن الذين يشتغلون بحفظه وتلاوته، لأن هذه أقرب إلى مقصد الواقف أو الناذر ومن جنسه، وإلا أنفقت لمصلحة مساجد، كما نص عليه بعض أهل العلم.
([1]) الاستذكار (16/85)، المجموع شرح المهذب (15/30)، المغني (7/136)، شرح السنة للبغوي (8/268)، بداية المجتهد (2/223)، مجموع الفتاوى (30/192)، فتح الباري (5/214)، (10/267)، (11/356)، فتح المغيث للسخاوي (2/97)، الإنصاف (6/45)، حاشية ابن عابدين (9/65).
([2]) السلسلة الصحيحة (256).
([3]) فتاواها (15/95).
([4]) الشرح الممتع (4/304، 340).
([5]) انظر المراجع السابقة.
([6]) مجموع الفتاوى (23/264)، (24/300، 315)، شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص/517)، إعلام الموقعين (4/181)، الإنصاف (6/46)، الأخبار العلمية (ص/138)، حاشية ابن عابدين (9/66)، رسالة الاستئجار على القربات الشرعية (ص/137)، الشرح الممتع (4/340).
([7]) مجلة البحوث (22/104)، فتاوى اللجنة الدائمة (15/96، 101)، (16/148)، تصحيح الدعاء (ص/500).