عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالَحٍ يَدْعُو لَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
تخريج الحديث:
حديث أبي هريرة I: رواه مسلم (1631).
فقه الحديث:
أجمع العلماء على مشروعية الوقف، وعلى أنه مندوب؛ لأنه قربة وعبادة، وأجره وثوابه دائم ما دامت منافع الموقوف باقية، وقد قال H: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ اِنْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ –أي: انقطع أجره إلا من ثلاث أعمال-: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ -وهي الصدقة المستمرة الباقية، والمراد بها الوقف-، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ -والمراد به: علم الكتاب والسنة-، أَوْ وَلَدٍ صَالَحٍ يَدْعُو لَهُ -سواء كان ذكرًا أو أنثى، إذا كان صالحًا فيدعو لأمه أو لأبيه بعد موتهما بالمغفرة أو الرحمة أو رفع الدرجة أو الإعاذة من عذاب القبر والنار-»، فهذه تنفع المسلم بعد موته.
المشهور عند أهل المذاهب الأربعة: أن صيغه منها صريحة، كقول الشخص: «وقفت»، أو «سبّلت»، أو «حبست»، وهذا يكون وقفًا بمفرده، لأنه متعارف عليه عند الناس.
ومنها كناية، كقوله: «تصدقت»، فهذا لا يكون وقفًا، إلا إذا نواه، فالأعمال بالنيات، أو إذا انضم إلى هذا اللفظ لفظ يدل على أن المراد الوقف، كقوله: «صدقة موقوفة»، أو «صدقة جارية»، أو «صدقة محبسة».
والصحيح من أقوال العلماء: أن الوقف يحصل بالفعل دون القول، إذا وجدت قرينة تدل على أنه وقف، مثلًا: أن يبني مسجدًا ويقول للناس: «صلوا فيه»، أو يسور أرضه على أنها مقبرة، ويأذن للناس في الدفن فيها إذنًا عامًّا، فالعرف جار على ذلك والقرينة قوية، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، والصحيح عند الحنابلة.
الصحيح من أقوال العلماء: أن الوقف يلزم بمجرد اللفظ، أي: من حين قوله: «وقفت أرضي أو بيتي»، ولا يشترط فيه القبض والتسليم؛ لأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، فلزم بمجرد اللفظ، كالعتق والنذر، وهذا مذهب الشافعية، والصحيح عند الحنابلة، وعليه بعض الحنفية، ورجحه ابن عثيمين.
ولا يشترط فيه رضى الموقوف عليه، كالنذر وإسقاط الدين، فيصير وقفًا بمجرد قول الواقف: «أوقفت كذا»، وهذا مذهب الحنفية، والمذهب عند الحنابلة، وهو الراجح.
إذا أوقفه في مرض موته؛ فلا خلاف بين العلماء أنه يكون كالوصية، فلا يخرج منه وقفًا إلا ما كان في حدود ثلث التركة، والزائد يتوقف على إجازة الورثة.
وأما ما أوقفه في صحته، وعلق إخراجه بعد موته؛ ففيه خلاف، والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه يصح ويعتبر كالوصية، فيخرج من الثلث كسائر الوصايا ولا يزيد على الثلث؛ لأنه تبرع معلق بالموت، فكان بمنزلة الوصية، وعليه: لا يلزم إخراجه إلا بعد موت الواقف؛ لأنه علقه بشرط.
والأرجح: أن له بيعه وهبته وإلغاؤه قبل وجود الشرط وهو الموت، كالوصية، وهذا مذهب الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة.
والقول الثاني: أنه لا يمكن إلغاؤه أو هبته أو بيعه؛ لأن الوقف لازم، فلا يفسخ ولا يباع ولا يوهب، وهو المذهب عند الحنابلة.
لا خلاف بين العلماء أنه يصح الوقف على الأولاد، فقد يخشى صاحب المال على المال من الضياع بيد الورثة، إما لسفههم، وإما لوجود من يحتال عليهم، وبالتالي يكون الوقف لجميع الأولاد، للذكور والإناث، بلا خلاف بين العلماء.
ولا يجوز – على الراجح – ما يعمله كثير من الناس من الوقف على البنين دون البنات؛ لما ثبت عن النبي H أنه قال: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ»، متفق عليه. وعمومه يشمل العطية والوقف؛ لأن الوقف لبعض الأولاد دون البعض الآخر بدون سبب شرعي يكون ظلمًا، ولأنه يشبه عمل الجاهلية من حرمان البنات من إرث أبيهن، ولأن الوقف قربة، وهو قول أكثر المالكية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، واختاره ابن حزم وابن عثيمين وعلماء اللجنة الدائمة([6]).
وعليه: إذا حصل هذا الوقف، فقيل: يكون باطلًا ويرد إلى المالك.
وقيل: يكون صحيحًا ويقسم على جميع الورثة، فقد صار وقفًا بالتلفظ به، وإنما الخلل في تسبيله، فيعدل الخلل، وهو الأرجح.
وذهب أكثر العلماء إلى أن الوقف على البنين دون البنات يكره فقط، فهو ماله، والوقف لا يباع ولا يوهب، فليس كالعطية.
فإن أوقفه على بعض أولاد ولده، ولم يكن مراده أن يرجع الوقف لولده؛ صح الوقف بلا خلاف بين العلماء، كما تصح الهبة والعطية لبعض أولاد الولد بلا خلاف بين العلماء، إذا لم تكن هنالك حيلة.
والوقف على الذرية إذا كان من عهود قديمة؛ فلا تقبل الدعاوى حوله ممن أراد الطعن في صحته، لأن القديم على قدمه، وربما حصل برضى الجميع، ولم يدركه من جاء بعدهم.
([1]) المغني (8/184)، شرح مسلم (11/73)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7601).
([2]) المغني (8/189)، الإنصاف (7/4)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7655).
([3]) المغني (8/187)، الإنصاف (7/36)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7618)، الشرح الممتع (4/583).
([4]) المغني (8/217)، الإنصاف (7/143)، الموسوعة الفقهية (44/126)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7684).
([5]) المغني (8/195، 205)، الإنصاف (7/74، 143)، المحلى مسألة (1656)، المحرر لأبي البركات (1/374)، الشرح الممتع (4/575)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7663)، المعاملات المالية للديبان (16/532).
([6]) فتاواها (16/14، 123).