وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ, وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(939) 06- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا, فَقَالَ: «رَضِيتَ؟» قَالَ: لَا. فَزَادَهُ, فَقَالَ: «رَضِيتَ؟» قَالَ: لَا. فَزَادَهُ. قَالَ: «رَضِيتَ؟» قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
تخريج الحديثين:
حديث عائشة: رواه البخاري (2585).
حديث ابن عباس L: رواه أحمد (1/292) عن طاوس عن ابن عباس L، وفي آخره: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَلا أتَّهِبَ هِبَةً إِلا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ»، ورواه عبد الرزاق (9/105)، والبزار في مسنده (4713) عن طاوس مرسلًا، قال الدارقطني: «وهو الأصح([1])»، وهو كما قال. وجاء من حديث أبي هريرة I بنحوه، وفيه: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلا أَنْ تَكُونَ مِنْ قُرَيْشِيٍّ، أَوْ أَنْصَارِيٍّ، أَوْ ثَقَفِيٍّ»، رواه أحمد(20/247)، وأبو داود (3537)، والترمذي (4290) وغيرهم وهو حديث صحيح، صححه الألباني([2])، فيكون حديث ابن عباس L حسنًا لغيره.
فقه الحديثين:
اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: يجب قبول الهدية، فقد روى الإمام أحمد (1/404) بإسناد صحيح عن ابن مسعود I قال: قال رسول الله H: «أَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَلَا تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ»، فنهى عن رد الهدية، والنهي عند الإطلاق للتحريم، وفي الصحيحين أن النبي H قال لعمر I: «فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ»، فأمر بقبول العطية، والأمر عند الإطلاق للوجوب.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وقول ابن حزم.
القول الثاني: يستحب قبول الهدية ولا يجب، فقد جاء في الصحيحين أن حكيم بن حزام I أكثر على رسول الله H بالمسألة، فنهاه
رسول الله H، فقال حكيم: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا»، أي: لا أقبل من أحد بعدك شيئًا، والشاهد: أن رسول الله H وسائر الصحابة M أقروه على ذلك.
وفي حديث ابن عباس L أن رسول الله H قال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَلا أتَّهِبَ هِبَةً إِلا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ»، وفي حديث أبي هريرة I: «أَنْ لا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلا أَنْ تَكُونَ مِنْ قُرَيْشِيٍّ... الحديث»، وخص هؤلاء الثلاثة لما يتصفون به من مكارم الأخلاق وعدم التسخط.
وما جاء في حديث عمر I؛ فظاهر الأمر أنه للندب، فقد أراد
رسول الله H أن يدفع عنه ما ظنه من عدم استحقاقه لما يعطى، لوجود من هو أفقر منه، وكذلك يحمل النهي في حديث ابن مسعود I على الكراهة؛ جمعًا بين الأدلة.
وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الراجح.
وقد يحرم قبولها إذا كانت محرمة، كالخنزير أو الخمر، وقد يكره قبولها إذا كانت مشبوهة.
مذهب أبي حنيفة والحنابلة، والمشهور عند الشافعية: أن الهدية أو الهبة لا تقتضي الثواب والعوض، فلا يلزم المهدى له أو الموهوب له الإثابة والتعويض، وإنما يستحب ذلك، فلم يأمر النبي H بالإثابة على الهدية أو الهبة، وإنما كان يثيب على الهدية، وهذا مجرد فعل، فلا يدل إلا على الاستحباب.
ومذهب المالكية، وقول للشافعية: أن الهدية أو الهبة تقتضي الثواب إذا كانت لمن هو أعلى منه، ويدل عليه مواظبة رسول الله H على الإثابة عليها، ولا أحد أعلى منه، ومن حيث المعنى أن الذي أهدى للأعلى منه كالفقير للغني قصد أن يعطى أكثر مما أهدى، فأقل ما يكون أن يعوض بنظير هديته، وإلا كانت صدقة منه للأعلى.
والقول الأول هو الأرجح، وهو اختيار اللجنة الدائمة([5]).
يجوز قبول هدية الكافر، نص عليه جماعة من العلماء، واختاره علماء اللجنة الدائمة([7])، فقد قبل رسول الله H الهدية من بعض المشركين، فقبلها من أكيدر دومة كما في الصحيحين، وقبلها أيضًا من عظيم فدك، رواه أبو داود (3053) بإسناد صحيح.
وقد جاء عن حكيم بن حزام I أنه أهدى للنبي H هدية وهو مشرك، فردها رسول الله H وقال: «إِنَّا لَا نَقْبَلُ شيئًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، رواه أحمد (3/403) بإسناد صحيح، وجاء من غير حديث حكيم I بأسانيد ضعيفة.
ورد عليها بردود، منها:
([1]) علله (11/33).
([2]) السلسلة الصحيحة (1684).
([3]) المحلى مسألة (1635)، المجموع شرح المهذب (6/245)، شرح مسلم (7/120)، فتح الباري (5/513، 538)، (15/55).
([4]) المغني (8/280)، فتح الباري (5/526)، الفقه الإسلامي وأدلته (5/4009).
([5]) فتاواها (16/172).
([6]) التمهيد لابن عبد البر (2/12)، سنن البيهقي (9/216)، المحلى مسألة (1639)، معالم السنن (3/36)، المغني (8/495)، فتح الباري (5/551).
([7]) فتاواها (3/303)، (16/183).