الخميس ، ٢٣ يناير ٢٠٢٥ -

الرئيسية

المقالات العامة

المطلب الأول: الإفطار بسبب وجود مانع للصوم

المطلب الأول: الإفطار بسبب وجود مانع للصوم
6

المطلب الأول: الإفطار بسبب وجود مانع للصوم

المسألة الأولى: الإغماء هل هو مانع للصوم؟

المسألة هذه على حالتين:

الحالة الأولى: إذا أغمي عليه جميع النهار:

اختلف العلماء في هذه الحالة هل يعتبر الإغماء مانعًا للصوم فلا يصح الصوم معه أم لا؟

القول الأول: إذا لم يكن نوى الصيام من الليل، كما لو أغمي عليه من قبل المغرب؛ فلا يصح صومه، والإغماء مانع من الصوم، وإن كان نوى الصوم قبل الفجر وأغمي عليه جميع النهار؛ فيصح صومه، ولا يكون الإغماء مانعًا للصوم.

وهذا قول الحنفية، وابن حزم، وبعض الشافعية.

دليلهم: أنه إذا لم يكن نوى الصوم من الليل، وأغمي عليه جميع النهار؛ فلا يصح صومه، ويعتبر الإغماء مانعًا من الصوم؛ لأنه لم يأتِ بالنية في وقتها المطلوب، وهو من بعد غروب الشمس.

وأما إذا كان نوى الصوم ثم أغمي عليه، فيصح صومه، ولو أغمي عليه جميع النهار؛ لأنه في هذه الحالة بحكم النائم، فكما أن النائم طيلة النهار إذا نوى الصوم من الليل يصح صومه، فكذلك هنا المغمى عليه.

القول الثاني: لا يصح صومه إذا أغمي عليه طيلة النهار، ولم يفق خلاله، ولو كان نوى الصوم من الليل، ويكون الإغماء مانعًا من الصوم.

وهو قول المالكية، والحنابلة، والمذهب عند الشافعية.

دليلهم: أن الصيام يشترط فيه نية وترك؛ فقد جاء في الحديث: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» - سبق تخريجه-، فأضاف ترك الطعام والشراب والشهوة إلى الصائم، والمغمى عليه في هذه الحالة وإن وجدت فيه النية، لكن لم يتصور منه الترك للأكل والشرب وغيرها؛ لأنه فاقد لعقله في هذه الحالة، فلا يضاف الإمساك والترك إليه، فلم يصح صومه، كما أن الإمساك وحده بدون نيَّة مسبقة لا يكفي، فكذلك النية وحدها لا تكفي.

ولا يقاس على النائم جميع النهار؛ للفارق بين النائم والمغمى عليه فالنوم لا يزيل الإحساس بالكلية، ومتى نبه انتبه فهو ثابت العقل، ويحصل النوم عادة، والإغماء يزيل العقل، وإذا نبه لا ينتبه غالبًا، ويعتبر عارضًا وليس بعادة، فالنائم مكلف فيصح منه الصوم، والمغمى عليه غير مكلف؛ فلا تصلح له نية فلم يصح صومه.

الترجيح: الراجح: القول الثاني: لا يصح؛ لعدم وجود الإحساس الكامل والعقل، فهو أشبه بالمجنون، والمجنون لا يصح صومه.

الحالة الثانية: إذا أفاق في أثناء النهار:

اختلفوا في صحة صومه في هذه الحالة:

القول الأول: إذا كانت الإفاقة أول النهار فيصح صومه، ولو أغمي عليه بقية يومه، أما لو أغمي عليه أول النهار، وأفاق آخره فلا يصح صومه، فالعبرة في صحة صومه: أن يفيق أول النهار.

وهو قول المالكية، وقول للشافعية.

دليلهم: ليحصل حكم النية في أوله، وذلك؛ لأن النية لا تصح حتى يطلع الفجر وهو مكلف، والمغمى عليه ليس مكلفًا حال إغمائه.

القول الثاني: إذا أفاق المغمى عليه في جزء من النهار سواء في أوله أو آخره؛ صح صومه، وكان نوى الصيام من الليل في صيام رمضان.

وهو قول الحنابلة، والأصح عند الشافعية، وهو قول الحنفية، وابن حزم فهم يصححون الصوم لو أغمي عليه طيلة النهار فمن باب أولى هنا.

دليلهم: لأنه اجتمع عنده نية وترك، فيكفي هذا منه ولو جزء من النهار، فيدخل في عموم قوله: «يدع طعامه»  وتعمد الإمساك في الجزء الذي أفاق فيه من النهار وعقله حاضر يصلح، سواء في أوله أو آخره أو وسطه.

والإغماء مرض من الأمراض فلا يمنع الصوم، واشتراط أن يفيق جزء من النهار؛ لأن الصوم لا بد فيه من الإمساك عن محظورات الصوم، وهذا لا يكون إلا مع وجود العقل.

الترجيح: الراجح: الراجح القول الثاني: متى أفاق من النهار صح صومه فوجدت نية وإمساك وهو المطلوب في الصوم.

فائدة: ذكر بعض أهل العلم كابن حزم وابن تيمية: أن المصروع يأخذ حكم المغمى عليه؛ لأن الصرع هو: الخنق الذي يعرض وقتًا، ثم يزول، فيلحق بالإغماء فهو يزيل الإحساس من السمع والبصر والشم والذوق، فيزول العقل تبعًا لذلك، بخلاف الجنون فإنه يزيل العقل خاصة، ولأن الصرع والإغماء مرضان؛ لأن المرض هو التغيير من حال إلى أخرى، فإذا هما مريضان فالقضاء يلزمهما بنص القرآن([1]).

المسألة الثانية: إذا لم يصح صوم المغمى عليه فهل يلزمه القضاء:

فيها خلاف بين العلماء:

القول الأول: لا يلزمه القضاء.

وهو قول داود الظاهري، وبعض الحنابلة، وبعض الشافعية.

دليلهم: أن المغمى عليه فاقد العقل، فهو في حكم المجنون، والمجنون لا قضاء عليه، وكما أنه لا يقضي الصلاة على الراجح، فكذلك الصيام.

القول الثاني: يلزمه القضاء.

القول هذا قول الجمهور، وهو المشهور في المذاهب الأربعة، وقول ابن حزم.

دليلهم: لأن الإغماء يعتبر مرضًا، فالمغمى عليه خرج من حالة القوة والصحة إلى حالة الضعف والاعتلال؛ لهذا يتصور الإغماء في الأنبياء، ولا يتصور حصول الجنون فيهم، فإذا كان المغمى عليه في حكم المريض، فيلزمه القضاء ويقضي هنا الصائم، ولا يقضي الصلاة؛ لأن المريض مأمور بقضاء الصوم، وأما المريض في الصلاة إذا خرج الوقت وهو على هذه الحالة عاجز في الصلاة؛ لم يؤمر بالقضاء على الصحيح، ولأن قضاء الصوم يسهل حيث إن الإغماء لا يطول، أما الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها.

الترجيح: الأحوط القضاء؛ لقوة ما ذكره جمهور العلماء حتى نقل بعضهم عدم وجود الخلاف فيه([2]).

المسألة الثالثة: من نوى الصيام ثم نام النهار كله؟

فيها قولان عند العلماء:

القول الأول: لا يصح صومه، وعليه القضاء، فلا بد أن يفيق ولو جزءًا يسيرًا من النهار.

وهذا قول بعض الشافعية، ووجه للحنابلة.

دليله: أن الصوم نية، وترك، وهذا وجدت فيه النية فقط، فلم يصح صومه، كالمغمى عليه.

القول الثاني: يصح صومه، ولا يشترط أن يفيق جزءًا من النهار.

وهو قول جمهور العلماء.

دليله: أن النائم مكلف، فعقله موجود، فليس هو كالمجنون أو المغمى عليه، والفرق بينه وبين المجنون أو المغمى عليه واضح – كما سبق ذكره في مسألة صوم المغمى عليه-.

الترجيح: الراجح: مذهب الجمهور يصح صومه([3]).

المسألة الرابعة: إذا أفاق المجنون أو أسلم الكافر أو بلغ الصبي فهل يلزمهم قضاء ما مضى؟

أولاً: الكافر إذا أسلم:

الذي اتفقت عليه المذاهب الأربعة، ولا خلاف فيه عند العلماء إلا من شذ: أنه لا يلزمه قضاء ما مضى من الأيام، سواء أسلم في رمضان أو بعده.

وذلك لأن الكفر مانع من وجوب الصوم عليه، والقضاء إنما يلزم إذا سبقه الوجوب، ولا وجوب عليه؛ لعدم أهليته بسبب كفره، وأيضًا؛ لأنه بإسلامه غفر له ما سبق، قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَنتَهُواْ يُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ [لأنفال:٣٨]، فلم يعد مطالبًا بقضاء ما مضى من ترك الصيام حال كفرة.

ثانيًا: الصبي إذا بلغ:

عامة العلماء مع المذاهب الأربعة على: أنه لا يجب عليه قضاء ما مضى من الأيام إذا لم يصمها، سواء بلغ في رمضان أو بعده.

وذلك لعدم أهليته للصوم قبل البلوغ، لهذا لم يجب عليه أداؤه مع القدرة على الصوم، بالتالي لم يجب عليه قضاؤه، ولو وجب عليه القضاء بعد البلوغ؛ لوجب عليه الصوم قبل البلوغ؛ لقدرته على الصوم.

ثالثًا: المجنون إذا أفاق:

في وجوب قضاء الأيام التي أفطرها -وهو بالغ لأنه كان مجنونًا حينها- خلاف:

القول الأول: يجب عليه القضاء مطلقًا، ولو مضى عليه سنون كثيرة.

وهو قول المالكية في المشهور عندهم، ورواية لأحمد، ووجه للشافعية شاذ.

دليله: أن الجنون مرض، وقد قال تعالى في المريض: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ [البقرة: ١٨٤]، فوجوب القضاء على المجنون إذا أفاق ليس لوجوب الأداء عليه حالة جنونه، وإنما بأمر جديد وهو ما نصت عليه الآية المذكورة.

ولأنه يجب عليه الصوم وإنما لم يصح منه لزوال العقل، فوجب القضاء كالإغماء.

القول الثاني: إذا قلت السنون كخمس سنين؛ وجب القضاء، وإذا كثرت السنون التي كان مجنونًا فيها؛ لم يجب القضاء.

وهو قول للمالكية.

دليله: وجود المشقة في وجوب القضاء إذا كثرت السنون.

القول الثالث: إذا أفاق في أثناء شهر رمضان؛ وجب عليه قضاء ما مضى من هذا الشهر فقط، ولا يلزمه قضاء غيرها من الأشهر، وعليه إذا فاق بعد شهر رمضان؛ فلا يلزم عليه قضاء رمضان.

وهو قول الحنفية، ورواية لأحمد، ووجه للشافعية.

دليله: لوجود سبب وجوب صوم الشهر كله، وهو شهود بعض الشهر وهو مكلف بصيامه عندما رجع له عقله.

القول الرابع: لا يجب عليه القضاء مطلقًا سواء جميع الأشهر، أو ما مضى من رمضان الذي فاق فيه.

وهذا المذهب عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، وقول ابن حزم.

دليله: أنه في حالة الجنون لم يكن مكلفًا بالصوم، فقد رفع عنه القلم فليس أهلًا للصوم، فلم يجب عليه قضاءه، كالكافر إذا أسلم، والصبي إذا بلغ.

ولأنه لا دليل من الكتاب والسنة على وجوب القضاء عليه، بل دلت السنة على رفع القلم عنه، فلم تلزمه الأحكام الشرعية، فإذا عقل حينئذ ابتداء الخطاب الشرعي له، ولزمه إياه.

وخالف المغمى عليه بأن المغمى عليه من أهل التكليف، فوجب الصوم عليه، وإنما عرض عليه المرض، أما المجنون فهو أصلًا ليس من أهل التكليف.

الترجيح: الراجح: القول الأخير لا يلزمه القضاء؛ لأنه ليس مخاطبًا بأداء الصوم لعدم أهليته([4]).

المسألة الخامسة: إذا أفاق المجنون أو أسلم الكافر أو بلغ الصبي في نهار رمضان فهل يلزمه إمساك بقية اليوم أو قضاء هذا اليوم؟

المسألة هذه تحتوي على قسمين:

الأول: إمساك بقية اليوم:

وفيه خلاف عند العلماء:

القول الأول: يجب عليهم إمساك بقية اليوم.

وهو قول الحنفية، والمذهب عند الحنابلة، ووجه للشافعية، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ العثيمين، والألباني.

دليلهم:  الأول: حديث عاشوراء الذي في الصحيحين – وقد مر معنا- وفيه أن رسول الله ﷺ أمر من كان أكل أن يصوم بقية يومه في يوم عاشوراء.

فيستفاد منه أن من حصل له التكليف بالصوم أثناء النهار أنه يلزمه، فمن أسلم بعد كفره، أو عقل بعد جنونه، أو بلغ بعد صغره؛ فقد صار مكلفًا بالصوم، وواجب عليه حين زال عنه المانع، فيمسك من حينها، وإن لم يجب عليه الصوم في أول النهار لوجود المانع.

الثاني: لأجل حرمة رمضان، والإفطار مع عدم وجود مانع تعدي على حرمة رمضان.

القول الثاني: لا يجب عليهم الإمساك.

وهو قول المالكية، والصحيح عند الشافعية، ورواية لأحمد، وقول الظاهرية.

دليلهم: أن الصوم لا يصح إلا بنية وإمساك، من الفجر إلى الغروب، ومن أصبح مفطرًا في أوله، فلن يصح منه الصوم بقية يومه؛ لاشتراط الإمساك لليوم كله.

وجاء عن ابن مسعود قال: «من أكل أول النهار فليأكل أخره»([5]).

وأمر رسول الله ﷺ الصحابة أن يمسكوا بقية يوم عاشوراء؛ وذلك لجهلهم بالأمر بصيامه، فعليه: من جهل صيام رمضان وعلم الحكم في أثناء النهار؛ وجب عليه الصوم بقية النهار؛ لأنه صار واجبًا في حقه حين علم الوجوب، وكذلك مثله من جهل أن هذا اليوم من رمضان ثم علم في أثناء النهار؛ فإنه يلزمه صومه؛ لأنه أفطر جهلًا منه بدخول رمضان، ولو علم أن هذا اليوم من رمضان؛ لصام من الفجر، ولا تجب عبادة على شخص إلا إذا علمها، ومتى زال الجهل؛ وجبت العبادة.

وهذا بخلاف الكافر والمجنون والصبي فهم يعلمون أن هذا شهر رمضان لكن صيامه لا يجب عليهم؛ لوجود المانع منه، فلا يصلح إلزامهم بصيام بقية اليوم استدلالًا بقصة عاشوراء لاختلاف السبب.

ملاحظة: ابن حزم يستثني هنا من جن بعد بلوغه؛ فإنه مخاطب بالإمساك أصلًا قبل جنونه، فيلزمه الإمساك إذا عقل في أثناء النهار، وإن كان غير مخاطب في أثناء جنونه.

الترجيح: الأقرب عندي: أنه لا يجب عليه إمساك بقية اليوم، فلما عُذروا في أوله وسقط عنهم؛ لم يجب في بقيته.

ونص الشافعية على استحباب الإمساك لهم، وهو صحيح لأجل حرمة رمضان ولأنه الأحوط لهم.

الثاني: هل يلزمهم قضاء هذا اليوم؟

 فيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: لا يجب القضاء على أي واحد منهم.

وهو القول الصحيح عند الشافعية، والظاهرية، ورواية لأحمد، واختاره ابن تيمية، وابن عثيمين، والألباني.

دليله: عدم وجود دليل على وجوب القضاء عليهم، ولأنهم ليسوا مكلفين بأداء الصوم في حالة وجود المانع، وهو حاصل في أول هذا اليوم فأهليتهم منعدمة عنده، فكيف يجب عليهم قضاءه؟!

ولأنه لا يلزمهم قضاء الأيام السابقة، فكذلك هذا اليوم.

القول الثاني: يجب على جميعهم قضاء هذا اليوم.

وهو قول الحنابلة في المشهور، عندهم ووجه للشافعية.

دليله: أن المانع زال عنهم في أثناء هذا اليوم، فصاروا مكلفين بصومه، ووجب عليهم، ولأنه لا يصح الصوم إلا بصيام كامل، وهم أفطروا جزءًا منه، فلزمهم قضاؤه، ولو صاموا بقيته فلا يكفي؛ لأنهم لم يصوموا يومًا كاملًا، فقد أفطروا جزءًا منه.

القول الثالث: لا يجب على الكافر إذا أسلم قضاء هذا اليوم، ولا على الصبي إذا بلغ قضاء هذا اليوم، ويجب على المجنون إذا عقل فيه قضاؤه.

وهو قول الحنفية، والمالكية، ورواية لأحمد، وقول للشافعية.

دليله: أما المجنون فيجب عليه قضاء هذا اليوم؛ لأنه يجب عليه صيام الأيام السابقة  - كما مر عنهم في المسألة الرابعة-، فقضاء هذا اليوم من باب أولى؛ حيث زال فيه العذر، وأما الكافر والصبي فلا يجب عليهما قضاءه إذا زال العذر في أثناء هذا اليوم  -للتعليل الذي ذكره أصحاب القول الأول-.

الترجيح: الراجح: القول الأول: لا يجب القضاء على أحد منهم؛ للدليل المذكور فيه والله أعلم([6]).

المسألة السادسة: الحيض والنفاس:

أجمعوا على أنه لا يصح صوم الحائض والنفساء، وعلى وجوب القضاء عليهما.

فعن عائشة ك قالت: «كانت الحائض تؤمر بقضاء الصوم، ولا تؤمر بقضاء الصلاة»([7]).

واختلفوا إذا طهرت أثناء النهار هل يلزمها إمساك بقية اليوم؟

القول الأول: يلزمها ذلك، ويلزمها قضاؤه.

وهو قول الحنفية، والصحيح عند الحنابلة.

دليله: لأن عذرها قد زال، ولحرمة رمضان، وتقضي هذا اليوم؛ لأنها لم تمسك يومًا كاملًا.

القول الثاني: لا يلزمهما إمساك بقية اليوم.

وهو قول المالكية، والشافعية والظاهرية، ورواية لأحمد.

دليله: أن صحة الصوم يشترط فيه الإمساك من الفجر إلى غروب الشمس، فلما أفطرت أوله لم يصح منها صوم بقيته؛ لهذا يجب عليها القضاء، فلهذا لم يلزمها إمساك بقيته؛ إذ لا فائدة من إمساكه، وصوم رمضان ليس محترمًا بالنسبة لها؛ لوجود العذر فيها في أول هذا اليوم.

الترجيح: الراجح: الثاني: لا يلزم عليها الإمساك، ولو أمسكت لحرمة رمضان فهو أفضل، كما نص عليه الشافعية([8]).

المسألة السابعة: صوم المرأة المستحاضة:

دم الاستحاضة هو دم فاسد غير طبيعي، يخرج في الأوقات المعتادة بسبب عارض؛ لمرض على صفة لا يكون فيها حيضا.

فدم الحيض دم جبله طبيعي يرخيه الرحم، ويخرج من قعر الرحم في أوقات معتادة، ومن صفة دم  الحيض أن رائحته منتنة، ولونه يميل إلى السواد كأنه محترق ثخين.

والمرأة المستحاضة هي من اختلط دم حيضها بدم غير الحيض.

ولا خلاف بين العلماء: أن المرأة عند خروج دم الاستحاضة، لا تترك الصلاة، ولا الصيام، وكذلك يجوز لزوجها مجامعتها في هذه الحالة عند جمهور العلماء.

فالمرأة إنما تترك الصلاة والصيام، ولا توطأ في حاله الحيض والنفاس، وليست الاستحاضة كذلك.

والمرأة المستحاضة باختلاط دم الحيض مع غيره لها حالات:

الأولى: من لها عادة في مدة معلومة، لكن الدم الخارج منها في وقت العادة، وفي غيرها على صفة واحده، فلا تمييز لها، وهنا تبقى مده أيام عادتها، فلا تصلى ولا تصوم، وماعدا هذه المدة تكون مستحاضة، فتصلى وتصوم، فالدم الخارج هنا دم فاسد.

وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة

الثانية: من ليست لها عادة في وقت معلوم معين، لكن الدم يخرج منها على صفات متعددة، فبعضه على صفة دم الحيض، وبعضه على غير صفة دم الحيض المعروفة، أي: أنها تستطيع تميز بين الدمين، فهذه تأخذ بالتمييز، فتكون حائضا إذا وجدت الدم الذي هو صفة دم الحيض، وتكون مستحاضة في الفترة التي يخرج منها الدم الآخر، فتصلى وتصوم.

وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.

الثالثة: من لها مده حيض معينه معلومة، ويخرج منها الدم على صفات متعددة، على صفه دم الحيض، وعلى غير هذه الصفة، ولا يتفق خروج الدم الذي هو على صفه دم الحيض، مع مدتها الأصلية المعروفة، وهذا مشكل.

وفيه خلاف مشهور بين العلماء:

القول الأول: تعتمد على التمييز، ولا تنظر لمدتها المعتادة، فمتى وجدت الدم الذي هو على صفه دم الحيض؛ فهي حائض، فلا تصلى، ولا تصوم، ومتى وجدت الدم الآخر، فهي مستحاضة، فتصلى وتصوم.

وهو قول مالك، والظاهرية، والأصح عند الشافعية، ورواية لأحمد.

دليلهم: الأول: قوله تعالى: ﴿ ﮠ   ﮡ  ﮢﮣ  ﮤ  ﮥ  ﮦ  [البقرة: ٢٢٢].

والشاهد: أن الله سبحانه علق حكم الحيض بصفته وهو الأذى.

فإذا رأت المرأة الدم الموصوف بالأذى بلونه وريحته وثخونته؛ وجب أن تعمل به، فالحيض من الأحكام المعقولة المعنى؛ لأن الله وصفه بأنه أذى.

الثاني: حديث عائشة ك: أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها النبي ﷺ: «إذا كان دم الحيض؛ فإنه دم أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي، فإنما هو عرق»([9]).

والشاهد من الحديث: أنه أحالها إلى اللون دون اعتبار لمدتها الأصلية، فإذا رأت الأسود فهي حائض وما عداه استحاضة لا يضرها.

الثالث: حديث أسماء بنت عميس ك: أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فلم تصلِّ، فقال الرسول ﷺ: «سبحان الله! هذا من الشيطان، لتجلس على مِركن، فإذا صفرة فوق الماء، فلتغتسل»([10]).

ووجه الدلالة: أنه أمرها باعتبار لون الدم، فإذا علا الدم الأصفر فوق الماء؛ فهي مستحاضة، فتغتسل وتصلي، وإن علا غيره؛ فهو حيض، وما جاء أن الرسول ﷺ أمر بعض المستحاضات باعتبار المدة، فيحمل على أن الخارج منهن كان على صفة واحدة وليس متغيرًا.

القول الثاني: تبقى مدة عادتها الأصلية، ولا تعتبر بلون الدم، فإذا جاء زمن مدتها الأصلية؛ تركت الصلاة والصيام، وتكون حائضة، ولو كان الدم الخارج منها في هذا الوقت على غير صفة لون الدم المعروف بأن كان أحمر، ولا يضرها الدم الخارج في غير زمن عادتها، ولو كان على صفة دم الحيض المعروفة، فتصلي وتصوم، وتكون مستحاضة في هذا الوقت.

وهو قول الحنفية، والصحيح عند الحنابلة، ووجه للشافعية.

دليلهم: الأول: حديث عائشة ك: أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله ﷺ : «إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي»([11])، وفي لفظ: «فدع الصلاة أيامها ثم اغتسلي»([12]).

والشاهد: أنه ردها إلى زمن عادتها، ولم يأمرها باعتبار لون الدم، ولم تقل: "إن الدم الخارج منها كان على صفة واحدة ولون واحد"، وهذه أصح الروايات في قصة فاطمة بنت أبي حبيش.

الثاني: حديث عائشة ك أيضًا: أن أم حبيبة سألت رسول الله ﷺ  عن الدم، فقال: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي»([13]).

والشاهد: كذلك أن رسول الله ﷺ ردها إلى عادتها دون الدم.

الثالث: حديث أم سلمة ك: أن امرأة كانت تهراق الدم، فسألت رسول الله ﷺ، فقال: «دعي الصلاة قدر الأيام والليالي التي كنت تحيضين وقدرهن من الشهر، ثم اغتسلي وصلي»([14]).

الرابع: أن زمن العادة أضبط للمرأة من اللون، فإن اللون يحصل فيه الاضطراب والتغيير أكثر، فقد تكون المرأة حائضًا في مدتها المعروفة، ويكون الدم الخارج على غير صفته المعروفة، إما أحمر أو أصفر، مع أنها غير مستحاضة.

والرد على أصحاب القول الأول: بأن هذه الأدلة أصرح وأصح فيؤخذ بها.

الترجيح: كلا القولين قوي، وله دليل معتبر، إلا أن أدلة القول الثاني أقوى عندي، فيكون قولهم أرجح، وقد رجحته اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية، وابن باز، وابن عثيمين.

ومع هذا لا بأس أن تجتهد المرأة في هذا بحسب ما تطمئن له فتعمل به، وتعتمده، والله أعلم([15]).

 

([1]) مراجع: ”فتح باب العناية (1/591)، حاشية الخرشي (3/31)، مواهب الجليل (3/342)، بداية المجتهد (1/298)، المجموع (6/254، 346)، مغني المحتاج (1/583)، المغني (4/343)، الإنصاف (3/293)، كتاب الصيام شرح العمدة (1/46، 47)، المحلى مسألة/754) الممتع“ (6/352) .

([2]) مراجع: المراجع السابقة.

([3])  ”المجموع (6/346)، حاشية الدسوقي (2/150)، المغني (4/344)، المحلى مسألة/754)، كتاب الصيام من شرح العمدة“ (1/48).

([4]) مراجع: ”فتح باب العناية (1/591)، حاشية الدسوقي (2/149)، المجموع (6/253، 254)، المغني (4/414، 415)، الإنصاف (3/282، 293)، المحلى (مسألة/754)، بداية المجتهد (1/298)، كتاب الصيام شرح العمدة“ (1/41، 42).

([5]) مر تخريجه، وفيه ضعف يسير.

([6]) مراجع: ”فتح باب العناية (1/590، 591)، حاشية ابن عابدين (3/343)، حاشية الدسوقي (2/137، 140)، التمهيد لابن عبد البر (22/53)، المغني (4/388، 389)، المجموع (6/256)، الإنصاف (3/282)، الفتاوى (25/109)، المحلى مسألة/754، 760)، السلسلة الصحيحة للألباني (6/251)، الممتع“ (6/334).

([7]) رواه مسلم (335).

([8])، ”فتح باب العناية (1/590)، حاشية الدسوقي (1/137)، المجموع (6/257)، المغني (4/387، 389)، المحلى“ (مسألة/736، 760).

([9]) ضعيف: رواه أبو داود (286) والنسائي في المجتبى (1/186) والدارقطني (1/206) والبيهقي (1/325) وابن حبان (1348) وغيرهم عن محمد بن أبي عدي عن محمد بن عمرو بن علقمة عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وظاهر سنده الحسن لهذا حسنه الألباني في الإرواء (204) لكن له علة في حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش في الصحيحين وليس فيه أمره إياها باعتبار لون الدم وإنما أحاله إلى زمن عادتها المعروفة لديها- كما سيأتي- وهو عن هشام عن عروة عن عائشة. وأيضًا جاء عن سهيل بن أبي صالح عن الزهري عن عروة حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أمرها رسول r أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل رواه أبو داود (281) وسنده حسن وليس فيه اعتبار لون الدم. لهذا أنكر هذا الحديث أبو حاتم فقال: لم يتابع محمد بن عمرو بن علقمة على هذه الرواية. اهـ كما في علل أبي حاتم (1/50) وأشار إلى ذلك النسائي أيضًا فقال: روى هذا الحديث غير واحد ولم يذكر أحدًا منهم ما ذكر ابن أبي عدي اهـ وضعفه الطحاوي كما في مشكل الآثار (7/155) وابن عبد البر في التمهيد (16/65).

([10]) رواه أبو داود (296) والطحاوي في مشكل الآثار (2730) وسنده حسن وحسنه الألباني في ”صحيح أبي داود“ (283).

([11]) رواه البخاري (325).

([12]) رواه ابن حبان (1355) وسنده صحيح.

([13]) رواه مسلم (4/21).

([14]) رجاله ثقات: رواه مالك في الموطأ (1/62)، وأحمد (6/293)، وأبو داود (274، 278)، والنسائي في المجتبى“ (1/182)، وابن ماجه (623)، والدارقطني (1/217)، وغيرهم عن سليمان بن يسار عن أم سلمة به.

وقد أشار إلى ثبوته الإمام أحمد، وأبو داود، وابن عبد البر، كما في الاستذكار (3/236)، والتمهيد (16/61، 64).

وقد جاء أيضًا عن سليمان بن يسار أخبره رجلًا عن أم سلمة به، رواه الدارمي (1/199)، وأبو داود (275)، والدارقطني (1/217)، والبيهقي (1/333)، وغيرهم.

وبهذه الطريق أعل البيهقي الطريق الأولى، وتعقبه التركماني بأن سليمان قد سمع من أم سلمة، فيحتمل أنه سمع هذا الحديث منها، ومن رجل عنها اهـ  الجوهر النقي (1/333).

([15]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين (1/286)، المبسوط (3/201)، الاستذكار (3/223، 226)، روضة الطالبين (1/253)، الأوسط (2/231)، الحاوي الكبير (1/404)، المغني (1/392، 396، 400، 402، 411، 428)، الفتاوى لابن تيمية (19/237، 21/627)، فتح الباري لابن رجب (2/60، 75)، الإنصاف (1/365)، المحلى (168، 269)، عون المعبود (1م335)، الشرح الممتع لابن عثيمين (1/488)، الفتاوى الجامعة للمرأة جمع الوزان (1/68، 131، 143)، الحيض والنفاس رواية ودراية“ للدبيان (3/1060).

6 قراءة
فتاوى الشيخ
المصحف الشريف
مع التفسير
الأكثر زيارة
آخر الإضافات
تهنئة