وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا, وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا, وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
تخريج الحديث:
حديث أبي هريرة I: رواه البخاري (2512).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: انتفاع المرتهن بالرهن([1]):
المرهون على قسمين:
القسم الأول: ما لا يحتاج إلى مؤنة ونفقة.
كالعقار والمتاع والأرض والآلات والسلاح، وهذه الأشياء لا يجوز للمرتهن الانتفاع بها بغير إذن الراهن، وهذا مما لا يعلم فيه خلاف، فإذا انتفع بها كسُكنى أو زرع أو لبس أو غيره حسب من دين الراهن بقدر ذلك، لأن منافع المرهون ملك للراهن.
القسم الثاني: ما يحتاج إلى مؤنة ونفقة، وهو على نوعين:
- محلوب ومركوب.
وهذا كالأنعام، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم جواز الانتفاع بهذا المرهون، وإن أنفق عليه إلا بإذن الراهن، ونفقته عليه تكون تطوعًا منه، فالأصل المجمع عليه: أنه لا يُستخدَم حق الغير إلا بإذنه، فلا يشرب من لبنه ولا يركب ظهره بغير إذن مالكه، وما جاء عن النبي H أنه قال: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» فهو منسوخ بالأدلة التي تنص على اشتراط إذن المالك، أو يحمل على أن المخاطب في هذا الحديث هو الراهن لا المرتهن، والمراد منه: أن صاحب الرهن ينتفع بالرهن بركوب أو شرب أو غيره، كما كان ينتفع به من سابق.
وذهب بعض السلف، وأحمد في المشهور عنه، وبعض المحققين كابن تيمية: إلى جواز انتفاع المرتهن بالمرهون باحتلاب أو ركوب بقدر النفقة عليه ولو بغير إذن مالكه؛ لما ثبت عن النبي H أنه قال: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ»، وظاهره: أن المخاطب به من في يده الرهن، فيشرب من لبنه ويركب ظهره بمقابل النفقة عليه. وقد جاء هذا صريحًا في رواية عند أحمد (2/228) والدارقطني (3/34) وغيرهما. قال: «إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً، فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَفُهَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُهُ نَفَقَتُهُ، وَيَرْكَبُ»، ورجال إسنادها ثقات، ودعوى النسخ لا دليل عليها. وما جاء هنا لا يخالف الأصل والقياس؛ لأن المرتهن ينتفع بالمرهون بمقابل النفقة عليه التي لا تجب على المرتهن، وإنما هي على الراهن، وعلى فرض أن هذا يخالف الأصل والقياس؛ فيكون مستثنى منه، بدليل خاص فيه، ولا قياس مع النص، وهذا المذهب هو الأرجح.
- غير المحلوب والمركوب.
كالعبد إذا كان مرهونًا ينتفع المرتهن به في خدمة أو كسب أو إجارة بمقابل ما ينفق عليه. وقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز الانتفاع به، ووافقهم الحنابلة في الصحيح عندهم، لأن الأصل والقياس يقتضيان عدم الانتفاع بالمرهون بغير إذن الراهن، وإنما يستثنى المرهون المحلوب والمركوب لدليل خاص بهما.
وقال الإمام أحمد في رواية: يجوز الانتفاع به قياسًا على المركوب والمحلوب.
المسألة الثانية: انتفاع المرتهن بالرهن في قرض([2]):
وذلك إذا اقترض شخص مالًا من شخص ووضع عنده رهنًا إلى حين السداد والوفاء.
وطريقة الانتفاع به على ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يشترط المرتهن الانتفاع بالرهن.
وهذا لا يجوز بإجماع العلماء؛ لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة للمقرض فهو ربا بالإجماع - كما سيأتي -.
الحالة الثانية: إذا لم يشترط المرتهن الانتفاع بالرهن، ولم يأذن له صاحبه بالانتفاع به.
وهذا كذلك لا يجوز الانتفاع به، بلا خلاف بين العلماء، لأن المقصود من الرهن: الاستيثاق لا الاستغلال له مقابل القرض.
الحالة الثالثة: إذا أذن له بالانتفاع به بغير اشتراط منه.
الصحيح من أقوال أهل العلم: أن الانتفاع به في هذه الحالة لا يجوز أيضًا؛ لأنه يكون من القرض الذي جر منفعة، فهو كالهدية للمقرض، فهذا ربا أو فيه شبهة الربا، والإذن والرضى لا يحل الربا ولا يبيح شبهته، وهذ مذهب المالكية والحنابلة، وقول بعض الحنفية، واختاره علماء اللجنة الدائمة.
ومعنى الاشتراط في كثير مما اعتاد عليه الناس في زمننا موجود في استخدام الرهن، وإن لم يُشتَرط صراحة، والمعروف كالمشروط.
المسألة الثالثة: انتفاع الراهن بالرهن([3]):
كاستخدامه بركوب أو لبس أو سكنى أو زرع، وهذا المسألة فيها خلاف بين الفقهاء:
فقال الشافعية: له الانتفاع بالرهن ولو بغير إذن المرتهن؛ لأنه ملكه، وإنما هو وثيقة فقط، بشرط ألا يترتب عليه نقص المرهون.
وقال المالكية: لا يجوز له الانتفاع به ولو أذن له المرتهن؛ لأن الإذن بالانتفاع يعتبر تنازلًا عن حقه في الرهن فبطل الرهن، إلا إذا وجد عرف على خلافه فبه.
ومذهب الحنفية والحنابلة: أنه لا يجوز له الانتفاع به؛ لأن المرهون عين محبوسة، فلم يجز للمالك أن ينتفع بها، كالسلعة المحبوسة لدى البائع حتى يوفي المشتري ثمنها، وإذا أذن المرتهن للراهن بالانتفاع به جاز ذلك، لأنه أسقط بعض حقه، وهذا هو الأرجح.
([1]) المغني (6/511)، مجموع الفتاوى (20/560)، فتح الباري (5/443)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4289).
([2]) المغني (6/509)، فتاوى اللجنة الدائمة (14/176)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4289).
([3]) المغني (6/515)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4286).