وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ, وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَكَيْفَ إِذْنُهَا? قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(992) 19- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا, وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ, وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي لَفْظٍ: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ, وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
تخريج الحديثين:
حديث أبي هريرة I: رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419).
حديث ابن عباس L: باللفظ الأول رواه مسلم (1412)، وباللفظ الثاني رواه أبو داود (2100)، والنسائي (6/84) وغيرهما، وإسناده صحيح.
فقه الحديثين:
المسألة الأولى: رضى الثيب في النكاح([1]):
عامة أهل العلم على اشتراط رضى المرأة الثيب في أمر زواجها، فلا يجوز لوليها تزويجها بغير إذنها ورضاها، فقد قال النبي H: «لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ»، والأيم: هي الثيب؛ فلا تنكح إلا بأمرها.
وروى البخاري عن خنساء بنت خدام J: «أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْيَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ الله H فَرَدَّ نِكَاحَهُ».
المسألة الثانية: رضى الصغيرة في النكاح([2]):
عامة العلماء على أن للأب أن يزوج ابنته البكر إذا لم تبلغ الحلم بغير إذنها ورضاها، ففي الصحيحين أن أبا بكر I زوج ابنته عائشة J على رسول الله H وهي صغيرة ولم يأخذ إذنها، قالت: «فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا
رَسُولُ الله H ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ».
ويشترط عليه أن يزوجها بكفء، ولا يجوز لغير الأب أن يزوج الصغيرة، فإن فعل لم يصح النكاح؛ لاشتراط أخذ الرضى والإذن منها، والصغيرة لا إذن لها، وإنما استثني الأب بدليل شرعي؛ لما يختص به من فرط الشفقة والرحمة بها والعلم بمصلحتها، مما لا يوجد عند غيره غالبًا، وعلى هذا جمهور العلماء، وهو الراجح.
واختلفوا في الصغيرة الثيب تزوج بغير إذنها؛ فقيل: يجوز لأبيها تزويجها بغير إذنها؛ لأنها غير بالغ، فهي كالبكر غير البالغ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ورواية لأحمد.
وقيل: لا يزوجها إلا بإذنها، فلا يجوز له إجبارها على النكاح؛ لأن الأصل أخذ الإذن من المرأة، فلا يستثنى منه إلا ما دل الدليل الشرعي على استثنائه، وهي البكر غير البالغ، وقد نص الشرع على أخذ إذن الثيب بلا تفصيل؛ فعليه: لا تزوج إلا بعد بلوغها؛ لأنه لا إذن لها قبل البلوغ.
وهذا مذهب الشافعي وابن حزم، ورواية لأحمد، وهو الأرجح.
المسألة الثالثة: رضى البكر في النكاح([3]):
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يجوز لأبيها أن يزوجها بغير إذنها ولو كرهت، إذا كان الخاطب كفؤًا، ففي حديث ابن عباس L أن النبي H قال: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ»، وفي رواية: «تُسْـتَأْذَن»، فأثبت الحق للثيب على وليها؛ فدل ذلك على نفيه عن البكر، فيكون وليها أحق بها من نفسها، والأمر باستئذانها أو استئمارها يحمل على الاستحباب لاستطابة نفسها، أو في حق من لا أب لها، فهذه لا تزوج إلا برضاها بلا خلاف.
ففي اللفظ الآخر من حديث ابن عباس L: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَاليَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ»، وصح بنحوه من حديث أبي هريرة وأبي موسى L عند أحمد (1/259)، (4/394) وغيره، فنص على أخذ أمر اليتيمة، وهي من لا أب لها، فتحمل الرواية المطلقة على الرواية المقيدة باليتيمة.
وتزويج أبي بكر I لابنته عائشة J بالنبي H بغير علمها يدل على صحة هذا القول، فالصفة التي يجوز أن تزوج المرأة بوجودها بغير إذنها هي البكارة، فلا فرق بين بالغ وغير بالغ.
وهذا مذهب المالكية والشافعية، والمشهور عند الحنابلة.
القول الثاني: لا يجوز للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ إلا برضاها، ولو زوجها بغير إذنها ورضاها لم يصح النكاح، فقد قال النبي H: «لَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْـتَأْذَنَ»، وهذا نفي بمعنى النهي، والأصل في النهي أنه للتحريم، وفي حديث ابن عباس L: «وَالبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ»، وفي رواية: «تُسْـتَأْذَن»، وهذا أمر، والأصل في الأمر أنه للوجوب.
وقد جاء عن ابن عباس L: «أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ H فَذَكَرَتْ: أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ H»، وهو حديث حسن لغيره ـ وسيأتي قريبًا ـ.
والأحاديث التي فيها النهي عن تزويج البكر بغير إذنها والأمر بأخذ إذنها عامة، تشمل اليتيمة وغير اليتيمة، وذكر اليتيمة في بعض الأحاديث؛ لأنها مستضعفة، فنبّه عليها حتى لا تظلم، ولا يفهم منه أن غير اليتيمة تزوج بغير إذنها.
وإثبات الحق للثيب دون البكر؛ لأن البكر تستحيي أن تتكلم في أمر نكاحها، فلم تخطب إلى نفسها، بل تخطب إلى وليها، وهو يستأذنها وجوبًا.
فالولي مأمور من جهة الثيب ومستأذِن للبكر، ولا بد من رضاهما.
وهذا مذهب الحنفية والظاهرية، ورواية لأحمد V، ونقله ابن القيم V عن جمهور السلف ورجحه، وهذا القول هو الراجح.
([1]) بداية المجتهد (2/5)، المغني (9/406)، فتح الباري (10/239).
([2]) بداية المجتهد (2/5)، المبسوط للسرخسي (2/83)، المغني (9/398)، فتح الباري (10/239)، الإنصاف (8/54، 56).
([3]) بداية المجتهد (2/5)، المغني (9/399)، فتح باب العناية (2/32)، المحلى مسألة (1826)، مجموع الفتاوى (32/22)، زاد المعاد (5/98).