وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا, فَكَثُرَ دَيْنُهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ»، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ, وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
تخريج الحديث:
حديث أبي سعيد I: رواه مسلم (1556).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: من أفلس وليس معه من المال ما يكفي لقضاء دينه([1]):
لا خلاف بين العلماء أنه يلزم عليه أن يبيع ما زاد عن حاجته وحاجة من يعول، ويُحث الناس على الصدقة عليه، وليس للغرماء إلا ما وجدوا، فقد قال رسول الله H لغرماء الرجل الذي أصيب في ثمار اشتراها فكثر دينه: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ».
ومما لا يباع ولا يؤخذ من المفلس: ثيابه، وقوته، وقوت من يعولهم، وآلة صنعته التي لا بد له منها، ولا يلزم ببيع داره التي يسكنها ولا غنى له عنها، ويكترى له بدلها، فليس في حديث أبي سعيد I أنهم أخرجوه من داره، فبيته كثوبه وقوته إذا كان لا غنى له عنه، وهذا هو الراجح، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، ووجه للشافعية، ونص الحنابلة على أن بيته إذا كان واسعًا يزيد أو يفضل عن سكنى مثله فيباع ويشترى له سكنًا يصلح لأمثاله، والأمر كما قالوا.
فإذا امتنع من البيع؛ فللحاكم أن يبيع ماله حتى يفي بدينه لغرمائه، فقد قال النبي H: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ»، والنبي H كان الحاكم، ولا يسجن عند جمهور العلماء؛ لأن سجنه مع القدرة على إنصاف غرمائه ظلم له ولهم.
واختلف الفقهاء: هل للحاكم أن يجبره على الاكتساب لقضاء دينه؟
فقال جمهور العلماء: لا يجبره على الاكتساب، فقد أمر الشرع بإنظار المعسر ولم يأمره بالتكسب، وقال رسول الله H في المفلس: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ»، ولم يأمره بالاكتساب لهم.
وذهب بعض السلف والحنابلة في الصحيح عندهم وابن حزم أنه يجبر على الكسب، لينصف غرماءَه، ولا يدعه الحاكم يضيع الحق اللازم عليه، ولأنه قادر على وفاء دينه بالاكتساب فيلزمه، كمالك المال يقدر على وفاء دينه. وإنظاره إلى ميسرة لا ينافي إلزامه بالكسب؛ لأن الميسرة قد تحصل مع السعي، ولم يأمر النبي H المفلس بالتكسب، فلعله كان له كسب لا يزيد دخله على قدر نفقته ونفقة من يعول، فهذا الحديث قضية عين تتطرَّق إليها الاحتمالات، فلا يثبت حكمها إلا في مثلها.
وهذا القول أصح، والله أعلم، ولا بأس أن يرجع هذا إلى اجتهاد الحاكم.
المسألة الثانية: حلول الدين المؤجل بالتفليس([2]):
فيه خلاف عند العلماء:
القول الأول: يحل وقت الدين بالتفليس ولو لم يأت أجله، لأن المفلس إذا باع ما معه لم يبق لصاحب الدين المؤجل شيء، فيتضرر بالتزامه للأجل، وهذا مذهب الحنفية، والمشهور عند المالكية، ورواية للشافعي وأحمد.
القول الثاني: لا يحل الأجل بسبب التفليس لأن الأجل حق للمفلس، فلم يسقط بإفلاسه، والمسلمون على شروطهم، فلا شيء لصاحب الدين الذي لم يحل أجل دينه، وهذا هو الأصح عند الشافعية والحنابلة، وهو الأرجح، والله أعلم.
([1]) المحلى مسألة (1278)، المغني (6/578، 581)، المجموع شرح المهذب (13/272)، الإنصاف (5/303، 317)، الفقه الإسلامي (6/4520).
([2]) المغني (6/566)، الإنصاف (5/307)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4516)، الشرح الممتع (4/168).